ورد أســــود
ملحق ثقافي الثلاثاء 20/2/2007 قصة :بسام الطعان ارتفعت صــيحات مفاجئة في الشـــارع الذي لم يرتد كامل يقظته بعد, فانفتحت كل الأبواب والشبابيك, ثم انتشــر خبر هـز البلدة كلها وحولها إلى خلية نحل. طار النوم من عينيَّ, فخرجت مســـــــرعاً وأنا أرتدي منامتي, ثم لحق بي أخي, وأبي و... و... رأيت حــــركات غير طبيعية, ورأيت الرجال والنساء والأطفال يركضـــــــــون باتجاه الغرب وقد تشعبت الدهشة في ذواتهم.
"ماذا حصل؟" لم يكلف أحد نفســـــــه بالرد على سؤالي, فركضت خلفهم إلى أن رأيت ما رأيت. وأنت يا عريس, يا صـــــــــديقي الوفي, كنت مرمياً بين الأشجار المزروعة في مدخل البلدة الغربي, ترتدي بذلتك السوداء, وقميصك الأبيض, وربطة عنقك الذهبية, وكانت سـكين لئيمة مغروزة بغرور في أقصى صدرك, فتبدو وكأنها إســـفين أســـــود مغروز في كومة من الثلج, أبعدت من في طريقي واقتربت منك, فرأيت خرائــط الدم مرســــومة على رقبتك وصدرك وتسـريحة شـــعرك, وكانــــــــت البراءة ومعها كل ابتسامات الأمس, ليلة عرســــــــك, واضحة على شفتيك وعينيك المفتوحتين. بحثت عن عروسك بين الوجوه الكثيرة فلم أجدها.. كثـيرون كانوا يحسـدونك على حبها لك, وعلى جمالها الخارق ونقاء روحها. سألت عنها وأنا أتأبط الهذيان, فلم يرد عليّ أحد. "هل هربت أم خطفت في عتمة الليل؟" آه يا صديقي.. قبل ساعات كنا زوجتي وأنا في حفل عرســـــــك, وبعد أن رقصنا وغنينا وضـــــحكنا وترنمنا مع المواويل في النادي المكتظ بكل أنواع الفرح,ودعناك وودعنا عروسـك التي كانت تتأبط ذراعك وترش من حولها البســـــــــــمات, وحين سرت معها باتجاه السيارة لتجمعكما ليلة من أجمل الليالي, لوّحــــت لنا, وطلبت منا أن نزورك, فوعدناك مع تلويحة أن نكون عنك في المســـــاء. " أين العروس؟" صاح أحدهم. "الكل بحث عنها في البيوت والبراري وعلى ضـفتي النهر, ولكن لا أثر لها وكأنها تحولت إلى نقطة ماء في بحر متلاطم الأمواج. صاح آخر وهو يبكي. إيه.. إيه يا عريس, يا يتيم الأبوين, هل تتذكر أيام الشــــقاء؟ وهل تتذكر كيف جمعت من تعبك وســــهرك في الليالي, وأيضا من تعب أختك, مهر العروس؟ حيث كنتما تشـــــتغلان في الليل والنهار دون كلل أو ملل, تجمعان القرش فوق القرش, وتحرمان نفســــــيكما من أشــــــــــياء كثيرة كنتما بأمس الحاجة إليها, والآن ضاع كل شيء, وتركت أختك الوحيدة, لمن تركتها يا مســــــــــكين؟ ها هي تفترش التراب, تلعقه, تنثره على رأســـــــــــــها, تنتف شعرها نتفاً عجيباً, تذرف الدموع المدرارة, تطبع على وجــــهك البارد قبلاتها الأخيرة وتتســــــاءل بكل عذابات الأرض: " من هم القتلة, وبأي ذنب قتلوه؟ فهو كان مثل حمامة الســـلام" لا تســــــــمع إجابة من أحد, فتســـــقط مغشية عليها, وحين تفتح عينيها مرة أخرى, تبقى صامتة للحـــظات, تنظر من حولها وكأنها تبحث عنك بين الوجــــــــوه, ثم تنتحب من جديد وقد جف فمها من العطــــــش الطويل: " والله ليـــس لي غيره, لا أخ ولا أخــت فلماذا قتلوه؟.. يا عالم يا ناس, لأي سبب قتلوه, لماذا تركوني وحيدة؟ لماذا لم يقتلوني قبله؟" تتوقف عن النحيب وكأنها تذكرت شيئا مهماً, وبعد لحـــظات تهز رأسها وتقول مع الشهقات: " حين عدنا إلى البيت, باركت زواجهما, قبلتهما ودخلـــــــت إلى غرفتي, تمددت, وقبل أن يأخذني النوم, ســــــــمعت صوت ارتطام شــــــيء, لكني لم أخرج من غرفتي, ليتني خرجـــت, ليتني لم أنم, نمت ولم أشعر بشيء حتى ســــمعت دقات عنيفة على الباب, وحين فتحته لم أصدق ما ســــــــمعت, هرولت إلى غرفة العروســــــين, فكانت مرتبة كما لو أن أحداً لم يدخلها..." لم تستطع أن تكمل , وسقطت على الأرض مرة أخرى. كغصن جاف تهزه الريح, كنت أسير خلف نعشك في صـباح شبه ميت, أقطع دروب التيه وخطاي تتدثر بالفوضى والهذيان, ومع كل شهقة تخرج من حنجرتي , كنت أبكي بكل لوعتي وضـعفي, وأزفك إلى عرسك الجديد بمرارة وحزن كبير بحجم الكرة الأرضية. كنت تســـتريح على الأكتاف , وأنا أنظر إليك ولا أمّل من النظر, وفجأة رفعت رأسك, أرسلت نظراتك إلى الوجوه المنكســرة, وحين وقعت نظراتك عليّ, قلت بلهفة وكأنك قادم بعد غياب طويل: " أين أختي وعروسي؟" مسحت دموعي وقلت بصوت سمعه الجميع: " ها هي أختك خلفي, إلى جانب زوجتي, وهي محاصرة بالحزن والقهر والعذاب, ها هي حافية القدمين, مبعثرة الشـــــــــعر, ممزقة الثياب, وها هو الورد الأســــــود ينبت تحت قدميــــــها, ورد مليء بالأشواك, كل من يمر من فـــــوقه أو من جانبه, يتألم ويحزن ويمتد حزنه إلى القمر, أما عروســـك يا صاحبي فهي غائبة في المجهول, وربما هي الآن تسأل عنك وتقول أريد عريسي". عندئذ بكيت بألم فقلت لك: " لا تبكي أرجوك" سقطت عليّ النظرات المســــتغربة, فلم أبال بها, تابعــت الحديث والرد على أسئلتك, فراحت الرؤوس تهتز بأسف: " اتركوه يفعل ما يريد" " كان من أعز أصدقائه" " لم أر مثل وفائهما" " سيجن المسكين" ليتني أجن وأنسى كل هذه الآلام. اســتعدوا لمواراتك الثرى, فقلت وأنت تحترق بنار لا تعرف الانطفاء: " لا تردموا الحفرة, اتركوها مفتوحة أرجــــــــوكم, فربما جاءت عروسي, وإذا جاءت ورأيتها, عندئذ اردموها بالإسمنت إن أردتم" لكنهم لم ينتبهوا إليك, انهالــــت الرفوش على التراب, فهتفت وأنا أحس بان كل سكاكين البلدة مغروزة في صدري: " لن يكون إلا ما تريد يا صديقي" اقتربت منهم, أبعدتهم بكل قوتي وصرخت بأعلى صوتي: " ألا تسمعون؟ لا تردموا الحفرة, اتركوها مفتوحة كما يقول لكم" " بماذا يبرطم هذا؟" صاح أحدهم بغضب تولد فجأة. أبعدوني عنهم وعادوا إلى عملهم, حاولت أختك أن ترتمي فوقك, لكن رجلاً ظالماً وبلا قلب, أمسك بيدها وأخذها رغما عنها . غادر الجميع المقبرة وتركوني وحيداً مع الفجيعة والغياب, وحين لم يبق غير الصمت , سألتك بصوت ليس فيه إلا الوهن: " قل لي يا صديقي, من هم القتلة؟" " هم الذين يعشقون الموت بلا سبب". بقينا ننظر إلى بعضنا البعض, أنت تنظر وتهز رأســـــــــك حينا, وحيناً تغمض عينيك, وأنا أنــــظر بحنان الأب والأم والأخ والأخت وأتحسر . " والله العظيم ســـــــــــأزورك في كل الأوقات". قلت حين فاجأني صوتك: "لا تتركني وحيداً, وكلما اشتقت إليّ تعال إلى هنا". وحين بكيت وقبلتك, ربتّ على كتفي وقلت: " يكفي البكاء.. اذهب الآن وابحـث عن عروسي, وإذا وجدتها قل لها أنني أريدها لأمر هام". ولم تخبرني عن هذا الأمر الهام على الرغم من إلحاحي الشـــديد, فنهضت بقلب يقطر دماً, رجعت أدراجـــــــي إلى البلدة , ولم تنقطع زياراتي إليك, كنت أجلس إلى جانبك, أسـليك وتسليني في النهار أو في عتمة الليل, وفي كل مرة تســـــــــــألني عن أختك فأجيب, وعن عروسك فتموت الكلمات في حنجرتي.
|