تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


حكمة الوفاء

ملحق ثقافي
الثلاثاء 20/2/2007
حسين عبد الكريم

« السودا» كشافة على خدّ الريح والأفق المستلقي على كتف البحر ، وحولها تتدردر خصلات غيم ومسافة .

قبلها قرى شلّعت أهدابها النظرات المتجهة إلى الماء ، وبعدها القرى التاليات ، يقرأن في كتاب الزفرات دروس المكابدات المرة ، وأسماء الشقاء العنيد ، الذي يلتصق بالعمر ، كصدأ لايمل ولايغيب ، « بحنين » حفنة أغنيات عتب ، تسافر بين المقيمين والمرتحلين والغائبين والحاضرين ، وبين المحبين والمنتظرين ثمار الاشتياق ، الذي يعذِّب طويلاً ، حتى يطعم اللهوفين بعضاً من لذائذ العيش الحنون . ماري وزهرا بنتا طفولتين متجاورتين : - طلب يدي علي داوود .. وأهلي قبلوا به زوجاً لي. هذه الكلمات القليلة رمتها زهرا على سمع ماري ، ولعلها لم تبحث عن تعليل أو تفسير أو إجابة . لكن الصديقة لم تترك الحديث ينتهي : - وأنت هل قبلت به ؟ - عائد من الغربة ، ويعرف كيف يبني الحياة ويعيش. عند مفترق المساء انصرفت الجاراتان : ماري إلى بيت أهلها القريب ، وزهرا حطبّت الأغصان اليابسة من على شجرة همتها ، ووجهت خطواتها باتجاه قريتها المقابلة لوجه المساء والمدى. ردت ماري : - رزق الله نجح منذ سنوات ، وسافر إلى فرنسا ليدرس وعاد من غير إتمام الدراسة -لاتكتمل الدنيا مع أحد: لو أنه أتم علومه ، لكان حوّش الخير والعلم لكن القدر لايترك الأمور تكتمل : أعطاه الرزق ولم يعطه العلم !! عادت مساءً باتجاه درب « بحنين » وفي عينيها أسئلة مأزومة ، لاتقوى على الفصاحة ، وفي صوت أعماقها غصص عجيبة ، لم ترد التحاور معها ، لعلمها أن لاقدرة لديها على شفائها ، والتعاطي معها . الدروب تجاورها « الحواكير » والكروم الطفلة المحتكمة إلي التربة العطشى والقسوة ، والصخور ، والجهات العالية . لم تنم أصوات البيوت . ونداءات من الوراء والأمام والشمال واليمين ، ومن الأعلى والمنحدرات ، وأم صالح يدها أمسكت بالمال القليل الذي أخذته من أم رزق الله ، وربطت عليه قماشة خاصة مشبوكة على شكل « جيب » . درس صالح الطب ، فصار الطبيب صالح : جاء الطبيب صالح وسافر الطبيب .. وعلا شأنه وتحسنت أحواله .. وأحب « هاجر » بنت القرية القريبة .. تعلمت هاجر وعلمت ، وعززت في حياة الدكتور صالح حكمة الحب والوفاء ، وأخلصت لأمه ، وبادلتها الوفاء ، وهي تقول : تعبت من أجلنا وتعبنا من أجلها .. أعطتنا وأعطيناك ... بعد حين عاد رزق الله طالباً عند الدكتور صالح وعادت حكمة الوفاء إلى واجهة الحياة والعلاقة التي تربط بينهما ... الدرب على اتساعه وعلوّه لم يزل يسعى بين السودا وبحنين ، وأم رزق الله وأم صالح احتفظتا ببحة الوداعات وقسوة الأيام السوداء . وهاجر لم تنس حكمة الوفاء ودروس الحنين ، التي تعلمتها من جراح الأرض وقصائد الشجر والعشب المدردر كنمش حزين على وجه حبيبة . أم صالح أستاذة تعلمت في مدرسة القناعة وعلمت حكمتها لولدها الوحيد وبنتها الوحيدة وإخوتها وجيرانها وأحفادها .. وأقفلت باب العمر على حاجات روحها ، وعلى البقية المتبقية من ميراث حسنها ، وأحزانها .. وقد حمل الولد وزوجه هذا الميراث ، قدماه لأم صالح ، والأولاد والبنات المسافرين في دروب العلم والوفاء ..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية