يوسف الخال أراد أن يسوق سيارة، أن يؤسس فجراً شعرياً، فكان المشرف والسائق أكثر منه شاعراً. الخمسينيات رائعة بوضوحها: كلّ الأمور واضحة، الحزن واضح والفشل واضح، والصدق واضح والكذب واضح..
الأشياء بأسمائها علاماتها، دون غموض أو حلاقة نسائية وصبغات شعر.. قدمني أول مرة أدونيس وقرأت يومها قصيدة من ديواني «حزن في ضوء القمر» بيروت أمّ ثانية بعد دمشق، سكنا بها، وعشنا، وأحببنا. يوسف الخال والأصدقاء في حوار مهموم حول الشعر، وأنا وأنسي الحاج نفكر: ماذا سنأكل.. وندخل الى المطبخ ونخرج: جناح الكآبة مخذولٌٌ أنا لا أهل ولا حبيبه أتسكع كالضباب المتلاشي كمدينة تحترق في الليل والحنين يلسع منكبيّ الهزيلين كالرياح الجميله، والغبار الأعمى فالطريق طويله والغابة تبتعد كالرمح مدي ذراعيك يا أمي أيتها العجوز البعيدة ذات القميص الرمادي هاجس الشعر وزمانه،
والمكان أب وأم للقصائد والشعراء، بيروت زمان مجلة شعر ويوسف الخال وأنسي الحاج وشوقي أبو شقرا، وأدونيس، والسياب الذي عرفه آنذاك محمد الماغوط وقال عنه: بدر شاكر السياب حزين ومدهش، يقرأ الأغاني الحزينة والشعر الحزين بصوته العجيب، الذي أصغي إليه، دون أن أفهم كلماته باللهجة المحكية: «الى بدر شاكر السياب» يا زميل الحرمان والتسكع حزني طويل كشجر الحور لأنني لست ممدداً الى جوارك ولكنني قد أحلّ ضيفاً عليك في أية لحظة موشحاً بكفني الأبيض كالنساء المغربيات لا تضع سراجاً على قبرك سأهتدي أليه كما يهتدي السكّير الى زجاجته والرضيع الى ثديه فعندما ترفع قبضتك في الليل وتقرع هذا الباب أو ذاك وأنت تحمل دفتراً عتيقاً نُزع غلافه كجناح الطائر وأنت تسترجع في ذاكرتك المتعبه هذه الجملة أو تلك لتقصها على أحبابك حول المصطلى «خمسون مجلة شعر»
تحت هذا العنوان قدم ملحق جريدة النهار سيرة ترتبط بتجربة مجلة «شعر» وتضيء زوايا لا غنى عن إضاءاتها في تجربة لافتة وحدا ثوية ومتمردة، الأديب والصحفي اللبناني المعروف بول شاوول وهو واحد من ورثة تلك التجربة: أسست «شعر» تيارها بالنصوص وليس باتجاهها العام. نصوص الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وجبرا ابراهيم جبرا أسست حساسية جديدة، ويعود الفضل الى تلك النصوص في هذه التجربة وليس الى السند النظري لقصيدة النثرالعربية التي لم تكن موجودة كتراكم بعد تلك النصوص أشاعت جو الحرية والتمرد وكانت الموقع النقيض لـ الآداب هذه النزعة الى الحرية وما بعد الأوزان والكتابة خارج القيم الاجتماعية السائدة هي التي أعطت «شعر» التي كما كتب في مقدمة عددها الأول: لا تنتمي الى أي مذهب فني. سطعت «شعر» بسطوع بيروت وتأسطرت مع اسطورتها بيروت في تلك المرحلة كانت مدينة جنون الحرية والثورات والتمرد، وقد تلازم صعود «شعر»
مع صعود بيروت كمنارة للحرية والديمقراطية، تماماً كما صعدت «الآداب» مع موجة اليسارية العربية والقومية. و«والآداب» ابنة المرحلة و«شعر» ابنة المكان. والشاعر شوقي بزيع يقول: قد لا يكون العدد الأول من مجلة «شعر» الصادر في الشهر الأول من العام 1957 قادراً بمفرده على تقديم صورة شاملة ووافية عن المفاهيم والقيم الجمالية والنقدية التي حملتها المجلة على امتداد أعوام عدة، لكني وجدت فيه الكثير من الارهاصات الابداعية والفكرية التي ساهمت في رفد الحياة الثقافية اللبنانية والعربية بأسباب التطور والتجدد والتغيير. الشاعر وديع سعادة: لا شك في أن لمجلة «شعر» تأثيراً لا ينحصر في الشكل وحده، ولو أن في طليعة تأثيراتها كان الشكل الشعري لقصيدة عربية قبعت قروناً في أشكال جامدة.
أنا أرى أن القيمة الكبرى لمجلة «شعر» هي الحالة الشعرية التي جمعت شعراءها ودعوتها الى روح شعرية جديدة القيمة في رأيي تكمن في تلك الحالة وتلك الروح وليس في الشعر الذي تضمنته مجلة «شعر». الشاعر محمد علي شمس الدين، الذي عاش تجربة الشعر والترجمة وتواصل مع مجلة شعر وشعرائها: كان لشعراء هذه المجلة من أمثال المؤسس يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج وعصام محفوظ وشوقي أبي شقرا جهد مبكر في ترجمة الشعرالفرنسي الحديث والشعرالأميركي والشعر الانكليزي من خلال أبرز ممثليهم،وإلقاء أضواء على الدادائية والمستقبلية والسوريالية. في مسيرة مجلة «شعر» ثمة محطات تاريخية وشعراء تاريخيون فيها. ترجمات أنسي الحاج ويوسف الخال وعصام محفوظ وشوقي أبي شقرا ودراساتهم جوهرية في إدخال توتر غير مسبوق الى الشعرية العربية هذا التوتر لا يزال يتدافع حتى اليوم. فمن المدارس والشعريات الحديثة استمرت حساسيات جديدة متفاعلة ومتدافعة في مغامرة غير محدودة بحيث إن الحداثة نفسها، ويدفعها الى ارتياد المجهول وتفتيح الأبواب على المستقبل. ومشاركات عديدة أخرى لأسماء شعرية ذات حضور في التجربة الشعرية العربية الحداثوية لـ عيسى مخلوف: إن الذي تراجع ويتراجع اليوم، هوالحالة الشعرية، وليس الشعر بما هو كلمات وقصيدة أو مجموعة قصائد، التراجع عام وشامل، هنا وفي كل مكان، ويأتي متزامناً مع تراجع مختلف الفنون الراقية التي يتطلب تذوقها فسحة من التأني والتأمل والعمق. إنه تراجع للفلسفة والميتافيزيقا والروح. وجمانة حداد: يقول فرسان «شعر»، في افتتاحية بعنوان «العودة»، استهلت العدد الأول من زمن المجلة الثاني: لا وقت لدينا لنجفف الشعر تحت شمس الثقافة المجردة: نحن لسنا مثقفين. نحن جسديون. ونحن، يا زمرة «شعر» الجميلة، لا وقت لدينا (ولا نريد أن يكون لدينا وقت) لنحنط الشعر تحت كلس النسبيات والسلالات والسلفيات. نحن، أيها السادة، لقطاء شعرياً لقطاؤكم، نعم، ولقطاء غيركم.. ولقطاء أنفسنا لكننا لقطاء. شكراً، أسمعكم تهمسون، وتتنفسون الصعداء. ويحيى جابر: لا تنفصل مجلة «شعر» عن دور لبنان بكونها ترانزيتاً شعرياً لمرور السلع الغربية الى الشرق الأوسط والأدنى، فانبرى الرواد كوكلاء لقصائد بروتونية «بروتون» ورامبوية «رامبو» واليوتية «اليوت». وسلمى الخضراء الجيوسي: وعلينا أن نذكر قبل كل شيء أن حركة الشعرالحر، وهي أخطر حركة حدثت لشعرنا الحديث، كانت قد تمت ونجحت وبدأت ترسخ نفسها سنوات قبل ظهور مجلة «شعر». إن حركة الشعر الحر كانت هي مفتاح الحداثة، ذلك لأنه لو بقي شعراء الوزن يكتبون في شكل الشطرين لما استطاعوا استيعاب مناخ الحداثة التي تحتم التغيير الجذري في اللغة والصورة واللهجة والموقف، إذ إن شكل الشطرين كان كفيلاً أن يجر معه جميع التركيبات اللغوية والصور التي ألفها في موروثه، وكذلك أن يحتفظ باللهجة القديمة العالية نفسها، وبالرؤيا السلفية الى حد كبير. وكانت الحداثة ستجيء الى الشعرالمنثور فقط. نوري الجراح: كان يوسف الخال طرازاً من المثقفين الرساليين الذين عارضوا الواقع من طريق الأدب. إنه المثقف الأنغلوفوني العائد من أميركا الى وسط فرنكوفوني في بيروت، ومعه حلم تغيير وجه الثقافة الشعرية العربية فلم يكن في وسع صاحب «بيان الحداثة»، ومؤسس المجلة التي ستلعب أخطر الأدوار وأكثرها جذرية في تاريخ الشعرالعربي الحديث، أن يفعل ذلك في وطنه الأم سورية، فقد كانت بيروت مدينة الحرية الثقافية. وآخرون لهم ما لهم في حضور الهم الشعري وتواشجات الفعل الإبداعي والانساني. «خمسون مجلة شعر» الورثة يتكلمون.. هي الأهمية بمكان أن تبقي التجربة على وارثين أعلى من السقوط، الذي تتعاطى معه تجارب أخرى هشة وبائسة. الشعراء الذين طلعوا من تجربة شعر لم تسطع شمسهم عبر مكبرات الضوء، ووسائط التضخيم الاعلامي.. سطعوا من واقع تجاربهم ومواجعهم، وهمومهم الثقافية وقناعاتهم المسوّرة بحكمة الأصالة، التي تلتقي مع حكمة التمرد والتحديث. كما قال محمد الماغوط: زمن الخمسينات من القرن الفائت زمن الوضوح والشجاعات النبيلة. وكما أكدت إبداعات أدونيس ورؤاه وأنسي الحاج وملاحظاته النقدية وتجديداته الشعرية وشوقي أبي شقرا وغيرهم. مجلة شعر كالحافلة يؤسس طريقها ويعبدها يوسف الخال،والشعراء الداخلون في اعتبارات التجربة ومعاناتها وإخفاقاتها ونجاحاتها ورؤاها مجموعة الحافلة وأساسها وكامل فريقها. هاجس الوضوح والحداثة والقصيدة وصداقات المكان والزمان والشقاء المثمر.. وكيف لا يكون شقاؤهم على هذه الدرجة من الازدهار وقد تركوا حضوراً مختلفاً وتجارب ناحلة القد ومدهشة ورثها الجيل الذي تلاها، ولم يزل يبحث عن وراثتها الآخرون.