ثم إن ذواكرنا الأبدية؛ وعواطفنا السرمدية تُذبح من الوريد إلى الوريد، فتتمزق الأرواح حسرات على انكسار وهج العيش المشترك؛ وتحطم وحدة النسيج الخلاّق، وهي تسمع تراتيل الآهات تنداح في الآفاق وبخاصة حين امتدت رقصة العنف والعبث؛ والتدمير والتخريب إلى نُصب الرموز التاريخية والنضالية، الإبداعية والثقافية فحطمت رؤوسها؛ وهشمت جسدها...
كانت الرعشة تحاصرني حين تناهى إلى آذاني ما جرى لتمثال أبي العلاء المعري في بلدته معرة النعمان بمحافظة إدلب. وإني لأعلم حق العلم أنه تمثال حجري لا ينفع ولا يضر؛ ولكنه ما كان ليكون لولا أنه يجسّد قيمة رمزية عالية لمعاني الوفاء لأحد عباقرة الأمة؛ وهو يؤسس في ذاكرة الأجيال أيقونة الاقتداء والاهتداء بما أبدعه من نتاج فريد ومتميز؛ ولم يخطر في بال أي سوري ـ ولن يخطر ـ أنه سيغدو صنماً للتعبد والتقديس.. فالعقل صار قادراً على التمييز بين الجهل والعلم؛ والشرك والإيمان.. وكل عاقل فينا يقتدي برسول البشرية حين نهى أصحابه ـ ابتداء ـ عن زيارة القبور يوم كانوا في بداية إسلامهم؛ وبخاصة أن عادة التعبد للآباء والأسلاف كانت معروفة في بعض القوم.. فلما أيقن بصحة عقولهم وصدق إيمانهم قال لهم: »كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجراً«؛ فالقبور صارت مادة للموعظة والاعتبار...
وما أنسَى لا أنسىَ زيارتي الأولى لهذه البلدة التي اقترنت كنيته بها منذ ولادته فيها (973م)، وتسمَّى باسم (أحمد بن عبد الله بن سليمان) حتى مماته فيها عام (1057م) عن عمر يناهز (86) سنة، بمثل ما اقترنت بالمهرجان الذي حمل كنيته (مهرجان أبو العلاء المعري)... وكل من تيمم وسط المعرة وجد قبره هناك في ظل شجيرات في المركز الثقافي القديم الذي حوى تراثه الزاخر بالإبداع والعبقرية؛ والفلسفة العقلية المثيرة للجدل... وهو الذي اختط في شعره مذاهب وأفكاراً ما كانت لغيره، مثل ديوان (لزوم ما لا يلزم) وفيه (13) ألف بيت من الشعر، وكذلك كان ديوان (سقط الزند) فريداً في بابه؛ ولا تختلف فرادته في كليهما عما وجدناه في (رسالة الغفران) و(رسالة الهناء) و(رسالة الملائكة) و(الفصول والغايات) و(زجر النابح) و(الصاهل والشاحج) و(معجز أحمد)... ومن منا لم يقرأ فلسفته الطريفة، المستندة إلى روح التشاؤم في قصيدته الشهيرة:
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادِ
وإذا كان قد فقد بصره بعد إصابته بالجُدري وهو ابن أربع سنوات فإنه كان عظيم البصيرة، حاد الذكاء حتى ضرب به المثل بالحافظة النادرة والحادة؛ حتى قيل: ما إن يسمع كلاماً من أي لغة حتى يحفظه؛ ثم إنه اتخذ لنفسه فلسفة خاصة؛ ولاسيما بعد اعتزاله الناس في بيته فصار رهين المحبسين (البيت والعمى)؛ وقيل: رهين المحابس الثلاثة وجعل العقل أساس بنيتها (لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء)...
وإذا كان قد اتخذ العقل حَكَماً بين الناس، وأقام حياته على المنطق السديد لم يكن يخطر في باله وبالنا أن الأمور ستنقلب رأساً على عقب؛ وسوف يرتكب بعض أبنائنا خطأ تاريخياً، وثقافياً ووطنياً بحقه حين اغتالوه من جديد في وضح النهار وسط الناظرين والشهود يوم الثلاثاء (12/2/2013م).. لقد نَصبُوا المحكمة؛ وشبّه على قضاتهم بأنه فارسيّ وزنديق؛ ثم تيقنوا من أوهامهم فحكموا عليه بالإعدام؛ ففصلوا رأسه عن جسمه... لقد جهلوا أنه عربي من تنوخ؛ وأنه صاحب الإيمان المُفَصَّل في (الفصُول والغايات) مع اعتقاده بأن العقل وحده يميز الخبيث من الطيب ما جعله يرد على من ظلمه في كتابه (زجر النابح). ولهذا كله فلم يكتفِ اللصوص والجهلة بانتهاك حرمة الأحياء وقتل مروءتهم وكرامتهم وإنما طالت أيديهم القيمة الرمزية لنُصب بعض العباقرة وما توحيه من تربية الوفاء والاحترام والتقدير للتاريخ الزاهر ورجالاته.
وإذا كان التفكير يراودني بأن ما جرى لتمثال أبي العلاء المعري إنما يعد مُقدّمة للنيل من رجالات الثقافة والإبداع من الأحياء؛ والتجرؤ عليهم، فإن هذا الجُرْم التاريخي يفرض عليهم جميعاً أن ينهضوا نهضة رجل واحد؛ وأن يقفوا إلى جانب الحق والخير، وأن ينحازوا إلى جانب وطنهم الحاضر في قلوبهم؛ وعقولهم والدفاع عنه بكل قوتهم. وسيبقى الوطن (سورية) قبلة لخفق القلوب المجتمعة على محبته والتضحية في سبيله؛ والحياض عن سيادته ووحدة شعبه وأرضه.
ولا يسعني في ختام كلامي إلا أن أقول: عذراً منك أبا العلاء المعري؛ فالمثقفون والأدباء والفلاسفة ظهروا أضعف من أن ينصروك أو يقدموا لك يد العون، على الرغم من أنهم يملكون أقوى سلاح، ألا وهو الكلمة.. فإذا كنا نخجل من عجزنا فإننا مازلنا نؤمن بأن تذكير الأجيال بعظمة عباقرتها، وترسيخ قيمة ما قدموه في حياتنا سيظل ديدننا وشعارنا، وقيمة كل إنسان بما يحسنه؛ وسينتصر الوطن بكل عمل وطني وثقافي مهما كان نوعه وحجمه ما دام يوضع بين يدي الأجيال المغروسة بالوفاء والاقتداء..
* رئيس اتحاد الكتاب العرب