وسيملك الشباب هذه الحكمة وذاك الهدوء كلما تقدّم بهم السنّ دون أن يعني ذلك أنهم لا يملكون أي شيء منها الآن..
يعتقد الشبابُ أن الدنيا كلها ملكهم، ولا يمكن لأحد أن ينافسهم فيها، وهذا شعور طبيعي لأن الإنسان في هذه المرحلة من العمر يكون مليئاً بالحيوية والحماسة والاندفاع، ويكون متجهاً دفعةً واحدةً لإتمام معالم شخصيته من جميع النواحي فكرياً وثقافياً واجتماعياً وجسدياً وعاطفياً..إلخ، الأمر الذي يقوده من حيث لا يدري في أحيان كثيرة إلى الوقوع في التناقضات، فإن حضرت له النصيحة من كبار السن لن يجد نفسه مضطراً للأخذ بها بل إنه قد يخالفها عمداً للإحساس بقيمة شخصيته أو ليثبت للآخرين أن هذه هي حدوده ولن يسمح لأحد بالاقتراب منها..
يتمنى البعض من الشباب لو تقع كلّ فتاة جميلة في العالم بشرك حبّهم، وأن تأتي قوانين الدنيا كلّها إليه منسجمةً مع تفكيره، وأن تُنسج الأعمال الدرامية من صدى معاناته وبلون هواجسه فقط، وأن تدور الدنيا في فلكه دون غيره فتضحك عندما يضحك وتبكي عندما يبكي!
البعض يحسبها أنانية، والبعض الآخر يعتبرها مرضاً ويذهب للتفكير بآليات علاجه، لكن المسألة مختلفة كلياً ولا تتعدى كونها خاصيةً واضحة في هذا العمر بالذات ستزول تدريجياً مع تقدّم العمر وتبلور القناعات والمواقف..
في المدرسة
يتمنى كل طالب لو تكون علامته هي الأعلى بين علامات رفاقه وإن كان يعلم تواضع مستواه أو قلّة تحضيره، ويتمنى أن يكون اهتمام المدرّس أو المدرّسة به استثنائياً وهو يعلم أن هذا المدرّس أو تلك المدرّسة لديه أو لديها /40/ طالباً في قاعته الصفية وتتمنى هي أن تكون على مسافة واحدة منهم جميعاً، كما يتمنى هذا الشاب أن تكون جميع رفيقاته معجبات به وهو يعلم أن في الصف /20/ شاباً آخر على الأقلّ..
تشكّل هذه المرحلة بداية الالتفات إلى الذات من جميع النواحي التي ذكرناها سابقاً، فهو عندما يقول نكتةً على سبيل المثال فإنما يفعل ذلك ليرى صدى وقعها على الآخرين وخاصة من الجنس الآخر حتى لو كانت النكتة قديمة ومستهلكة، وعندما يرتدي ملابس جديدة أو يأتي بتسريحة شعر جديدة ولا ينتبه إليه أحد فإنه يشعر بالإحباط..
الشباب في هذا العمر ( وأستأنس برأيي بما قرأته من دراسات وأبحاث متعلقة بالشباب) يخوضون مخاطر مختلفة لا احد يشعر بحجمها إلا الشباب أنفسهم بينما يراها الآخرون في كثير من الأحيان تافهة لأنهم تجاوزوها وأصبحت من الذكريات..
قد يكون التحدّي الأول لهذا الشاب هو أن يعرف كيف يعبّر لزميلة له عن إعجابه بها بينما نأتي نحن الكبار على هذه المسألة بكثير من الهزء والاستخفاف وننسى كم احمّرت وجوهنا وكم تعثّرت خطواتنا عند هذا الاختبار الصعب حقاً..
طبعاً، ليس بإمكان الأهل أن يدخلوا على خط هذا الاختبار لأن ذلك سيزيد الأمور تعقيداً لدى الأبناء وسيصبح الحرج في الاتجاهين (مع من يريد أن يعبر لها عن إعجابه ومع الأهل) والزمن وحده هو الكفيل بتجاوز هذه المرحلة بكل ما فيها من حرج وإرباك، ولكن ما يخفف من آثارها ومن صعوبتها هو وجود منظومة ثقافية واجتماعية منفتحة تمنح الشباب الثقة بأنفسهم وبقراراتهم ولا يجوز أن يعتبروا أن كل ما عجزوا عن تحقيقه أو الحصول عليه ضعفاً فيهم أو نقصاً لديهم والكل متفق على أن النجاح والفشل هما وجهان لعملة واحدة في كل ما نقدم عليه.
ما بعد المدرسة
يستمر الاضطراب في مرحلة ما بعد المدرسة وفي سنوات تحديد هوية المستقبل (الدراسة الجامعية أو التوجّه للأعمال الحرفية والمهنية) وقد يتحول هذا الاضطراب إلى نوع من الصراع الداخلي المعطّل للقدرات أو الصراع غير المعلن مع الآخرين على منطق (وهو ليس منطقاً) لماذا فشلتُ ونجح الآخرون، لماذا رفيقي الفلاني دخل كلية الطبّ ولم أجد لنفسي أي مقعد في الجامعة؟
هنا دور الأهل مطلوب بقوة وهذا الدور حسّاس في عملية ترميم المعنويات المتصدّعة أو تعزيز الميول الحرفية التي يعتقدون أنها مناسبة لمهارات أبنائهم ويمكن أن يحققوا من خلالها نجاحاً يوازي نجاح الذي ذهب إلى كلية الطبّ مع الإشارة إلى أنه ليس بالضرورة أن كل طبيب هو إنسان ناجح..
إذا ما انطلقنا من هذه القناعة نستطيع أن نحافظ على طاقات شبابنا ولا نتركها عرضة للهدر والضياع، فالنجّار الناجح على سبيل المثال يخدم أسرته ومجتمعه ولا غنى لأي مجتمع عن الإسكافي أو عن الحدّاد أو أي مهنة أخرى، حتى الطبيب نفسه يحتاج للنجّار عندما يريد أن يؤثث عيادته ويحتاج للدهّان عندما يريد تجميلها..إلخ.
جزئيات ولكن!
نلاحظ من المحيط الذي نعيش فيه أن الكثيرين يقولون لأبنائهم: انظروا ابن فلان أصبح طبيباً وابن علتان أصبح مهندساً إلى آخر هذه القائمة المفضّلة لدى الكثير من الأهالي دون أن ينتبه معظمهم إلى تفاصيل صغيرة قد تكون كفيلة بطمس معالم شخصيات أبنائهم..
العمل على الجزئيات الصغيرة في شخصية وتفكير الأبناء قد يقودنا إلى نجاحهم فنسعد بهم وإغفالها قد يقودنا وإياهم إلى تعاسة مزمنة...
في هذا الوقت بالذات وقبل أيام قليلة من توجّه أبنائنا إلى امتحانات الشهادة الثانوية وهي التي ستفرز المستويات رقمياً بين الطلاب وتحدد جهة المستقبل بالنسبة لكل منهم نضغط من حيث لا ندري على أعصاب أولادنا من خلال مقارنة دراستهم مع دراسة غيرهم ومن خلال الإلحاح عليهم بضرورة تجميع أكبر قدر من العلامات ليدرسوا هذا الفرع أو ذاك وأعتقد أننا في ذلك نرتكب بعض الحماقات التي ترتدي ثوب النصح والتوجيه..
نعم، علينا أن نشحذ هممهم وأن نحرّضهم على الدراسة أكثر وأكثر وسنفرح قنطاراً مع كل علامة زائدة ولكن هذا يجب ألا ينسينا القدرات التي يتمتع بها الآبناء فلا نطالبهم بما هو أكثر منها حتى لا تأتي النتائج بالمقلوب..
من الصحّ أن نبقى قرب أبنائنا لكن من الخطأ أن نسكب تفكيرنا كلّه في تفكيرهم وأن نجبرهم على ارتداء قناعاتنا لأن أيامهم ملكهم وهم الذين سيعيشونها لا نحن..