فالزلازل والبراكين والهزات الأرضية المتتالية والمتكاثرة والمباغتة في كل مكان رغم التطور الكبير في أجهزة الإنذار تمثل تماماً صورة يد الإنسان الأثيمة وغضب الطبيعة الهادر .
وبالطبع ليس باستطاعة الشعب الياباني أن ينسى أو يتجاهل يوماً الزلزال بل التسونامي الذي اجتاح الجانب الشمالي الشرقي من بلاده مؤخراً رغم التطور التكنولوجي الكبير في هذا المجال .
الشعب الياباني يتمتع بحسٍ إنساني عميق يتفاعل ويتأثر حزناً مع كل شعب ذاق ويلات غضب الطبيعة ، كما تجلى ذلك قبل فترة ليست ببعيدة خلال الكوارث الطبيعية الهائلة التي ألمت بدول الصين وأندونيسياوتركيا وإيران وتشيلي ومناطق أخرى كثيرة في العالم ، فيما الشعوب الأوروبية وبخاصة الفرنسية منها أبدت حيال هذه المآسي ومن ضمنها مأساتنا الكبرى ردود فعل باردة ليست إلا تعبيراً عن بلادة إحساسها ولم تتطرق صحافتها سوى إلى تدوين بعض السطور القليلة من هذا الحدث داخل صفحاتها الداخلية لتنتقل سريعاً إلى مواضيع أخرى أكثر أهمية بالنسبة لها ...
والأمر المؤثر في هذا البلد المتطور جداً هو استمرار البث عبر القنوات التلفزيونية وصموده في هذه الظروف ... إن كان حال الطبيعة في كل مكان وزمان المضي بعناد وشراسة لمهاجمةكل تقنية معدة للسيطرة عليها واغتصابها ، فإن هذه الأخيرة ضرورية إلى حد كبير للحد من الفوضى التي تساهم بها الطبيعة أحياناً بمفردها لا شك أن كل مهتم ومتتبع للأمور عبر العالم قد شاهد من خلال شاشات التلفزة الكتب والأشياء تتدحرج من طبقات الأبنية ، والأنوار تخفت وتنطفئ ، وسقف المطار الكبير يتصدع ويتهاوى ، وأطفال متروكون ومهملون وأهالي مشتتون ونسوة تتراكضن وسط ركام الأحجار بذعر كبير لا يخلو من عزة نفس .... أجل مدن بأكملها سويت بالأرض ، ونهرٌ من الطين يهدر بوحشية محملاً بالسيارات والبواخر والأشرعة كل ذلك يبدو لناظرينا كابوساً حقيقياً مريعاً...ذلك المشهد الرهيب حمل ذاكرتنا وعاد بها إلى عهود متفاوتة في الزمن كللتها صور دمار مروع ودماء قتلى بأعداد هائلة في مدن كثيرة مثل ستالنيغرد ودرسون وهيروشيما ، وبرجي التجارة في نيويورك نتيجة كوارث مختلفة شكلتها أصابع يد الإنسان الأثيمة وكأن الطبيعة تريد أن تقول لنا من خلال اللوحات القاتمة مايلي : «أجل لقد دفنتموني في ذاكرتكم طويلاً ولن تتمكنوا بعد اليوم من لجم غضبي ، سوف أنتقم من شروركم وجنونكم وأرد الصاع صاعين».
ورغم أن الزلزال إياه تفوق على سابقيه ، فالعالم المحيط بنا في حالة تغير مستديم مع ذلك ، قبل عقدين من الزمن وأكثر أوحى زلزال كبير ضرب مدينة لشبونة للكاتب الفرنسي فولتير فكرة الانكباب على الخروج بعمل أدبي فكانت رائعته «كانديد» حيث هاجم من خلالها وبسخرية مريرة سمة التفاؤل عند الفيلسوف ليبنز الذي كان يؤكد بحماسة وعبقرية نادرة أن الناس كل الناس يعيشون في أفضل العوالم الممكنة ، خلافاً لما نلحظه وبقوة في هذه الأيام من أن ثمة شيئاً يتخفى خلف المعاناة والآلام التي تعتصر قلوب الشعب الياباني البائس : لعله الخوف من فقدان ثقتنا التامة بكل تقنية ، يفترض بها أن تكون في خدمة الإنسان ، إلى حد التسليم بعدم فاعلية وجودها في الأراضي التي ترتعش والبحار التي تزمجر والطبيعة التي تئن بمخاض عسير ولن ينسى أحد من بيننا الموجة المهولة التي تكسرت على شاطئ مدينة سيدني وهي توقظ فينا ذكرى هيروشيما وتشيرنوبل ....
لا يسعني إلا أن أشير حيال هذه المجاعات التي تستشري في أرجاء الصين وثوران البركان في جبال الـ Pelee والهزات الأرضية في عمق الشرق الأقصى ، أن الأمر يتطلب شيئاً من المخيلة والإدراك الواسع والعطف لنستطيع مشاركة آلام هؤلاء المنكوبين في تلك المناطق كما في بلادنا إذ ما من دولة أو بقعة من الأرض بمنأى عن ذلك ، ذلك أن الطبيعة لا تتقن فن التمييز بين هذا وذاك ، بين مكان وآخر ... جميعاً مستهدفون في الغد القريب أو البعيدعلى السواء ، أجل نحن مستهدفون في أرواحنا وأرزاقنا ... وفي الواقع لقد ثبت لنا وبما لا يدع مجالاً للشك أن تقدمنا وتطورنا ليس سوى بخاراً أمام أنفاس الطبيعة الغاضبة والحاقدة العلم يخدع بسبب قابليته للعطب السريع ففي معركة التاريخ الكبرى والتي تتخذ بحق طابع أحد الفنون العسكرية الأثيرة لدينا بفعل خديعة تاريخية ، تشهر الطبيعة سلاح معرفتها في اللجوء لاستخدام قوتنا بشكل عجيب ومدهش لتحيلها من ثم إلى ضعف فاضح ... أجل سوف يأتي يوم وقد يكون بعيداً ، ونأمل ذلك ، فيه شاهد بأم أعيننا إحدى ولايات أو مدن أميركا الظافرة وحتى بعض المدن الأوروبية الغافية على فراش مجدها القديم تتهاوى بين أصابع كارثة لا تقل كارثية عما حدث في بلادنا ... ذلك أن من طبيعة الأشياء أنها تستطيع تطويع وثني عبقرية الإنسان .... نحن المتألمين ضحايا ما نسجته بالفعل أيادينا الأثيمة في كل مكان ... آن لنا أن نستيقظ من غطرستنا وتجبرنا على الطبيعة التي صبرت علينا وجادت في صبرها ..