لم يبق لك سوى أطيافهن تهب على بالك في أوقات الوحشة كنسائم مساء صيفي.. من يعبأ بك الآن أو يتذكرك وقد أدلجت في الغروب.. ها.. تقبع على مرمى حصاة من انعدام الهواء واختناق الأنفاس..
إنه العبور الزاحف على أربع إلى صحراء لا مفازة فيها.. أو إلى ظلام المهاوي السحيقة القاع تمضي حيث المجهول في انتظارك أيها الشاعر العاشق لجنة الحزن.. لا مكافأة لك على حياتك في الحياة إلا الفناء، لا جدوى من وجودك في الوجود إلا الرحيل.. أوصيك إياك أن تنحني انحناءة غير انحناءة ظهرك، تندم إذا فعلت، ولكن اسمع يا وحيداً متوحداً، ثمة كلام آخر غير ما سلف أرغب في أن أفصح عنه وأبوح لك به فانصت إلي: هناك دائما شروق جديد لأقمار في النهار من نساء وفراديس وهناك أبداً غياب موجع مع الشفق لأوهام كانت حقائق، لشمس كانت شمساً ستطلع مجدداً كل صباح على الناس تدرك أنها ليست شمسك، شمسك سماؤها تضيق وأرضها تنخسف، وهي في نضوب أشعتها تسقط معك، القمر سيبقى يسطع.. الشمس ستظل تشرق، دورة البقاء أقوى والإنسان أجمل مافيها على الرغم من سوءاته. الحب سعادة الطبيعة في بدء الكينونة كان ومع توالي فصولها يستمر، فلا تيئس ياصديقي لابد أن يصيبك منه نصيب كن واثقاً من نبوءتي يا أحلم الحالمين وانتظر مايسري عنك من أفراح قادمة.
-2-
الشعر سؤال يتساءل، يزداد ثقله إذا اكتمل بتمام أمدائه ووصل إلى منتهى أرجائه.. إنه إغراء يذعن الشاعر لرغائبه ويستجيب لمطالبه، ويحمل منه بسلال من قصب نشوة الينابيع في تدفقها العارم إلى مصبها المرتقب ورفدها وسيبها وعطائها وغنمها.. صوته المضمخ بترانيم الموسيقا ونبض الشعور انتقال إلى الضفة الأخرى حيث رعشة الأشجار تهوي على المهاد صريعة كأفعى سال دمها بنطاف الحشرجة وهي تختلج تحت وقع الواقعة الغاشية وسم النشوة الداهية، يا للشعر.. إنه ولادة مستلذة رغم آلامها المبرحة.
إن قصيدة مستلقية على انعدام الجدوى وقت القيلولة وبراح الأصيل تشبه امرأة هجست في قلبها ذكريات جسدها الخامد وعنت على بالها مغامرات شبابها في ذروة محاقه، ها.. شاعرها الآن انتهى من احتراقه وخلفها رماداً في منفضة الدخائن تأمل بمن يمسح بأوراقها الحائلة زجاجاً أسود من إحباط الإبداع حين يقصر إلهام المبدع عن لحظة إشباع الهيولى بالفيوض العرفانية والرؤيا بالإشراقات النورانية لتتجلى التجربة في اكتمالها بعد معاناة التجريب في نقصانه والوصول إلى حداثة الروح في أوج تألقها.
-3-
أتراها السعادة تأتي على ساقين من جبس يتشقق ويتفتت أو عيدان من قصب يتقصف ويتكسر أم هي حلم جميل من أحلام اليقظة تتراءى لناظرها ومنتظرها سهلة المنال والمأخذ ودون بلوغها ترتفع سامقة جبال المستحيل في ليل من الشقاء الطويل؟ لا إجابة على سؤال بلا جواب ولارد على لغز بلا حل.
كل علوم الرياضيات- أعني الحساب- قديمها وحديثها عاجزة عن التصدي لهذه المسألة فما الجدوى من التطرق إلى موضوع عجزت الفلسفات- والفلاسفة- عن تحديد ماهيته واستكناه غائيته.. كأنه باطل الأباطيل وقبض الريح وهو في لغة من البساطة وكدت أكتب القناعة ليس بذاك.
تذكر أيها الشاعر المائت من الوحشة: الفرح يطير بك إلى شهوق النشوة، خفيف هو.. الحزن يسمرك بالأرض هو ثقيل.. القصيدة بين ذاك وهذا جنية ساحرة من رغائب ولذاذات تغريك بالقطاف.. مع الأول إلى سمائه تصعد فتخسر الألم وهو جوهر البدعة الابتداع وتهبط بك مع الثاني إلى عمق الذات وهو أس الفن والافتنان، وهكذا تكسب من تداخل المسرات بالأحزان فرحة الغبطة العابرة وحكمة التجربة الغائرة والشعور بنسق الحياة المتناغم في عزفه الهارموني لسمفونية الأضداد وإنشاده ملحمة الذرا والأودية كأناشيد ( جلجامش) الذبيح تحت الشمس بلا أردية.
-4-
حيالي شبح من أسنان يغرز في لحمي نواجذ تتلألأ كالبرد.. أستعذب الألم الضاري، لا أصرخ.. أخرج إلى البراح السماوي.. أقف على قمة رأس الأشياء، بسرعة لاهثة أدعو رفيقي المسمى بلا تسمية أن يشاركني لهفتي الجنونية لقدوم المخاض.. سأكتب قصيدة الشعوذة والرقى والسحر فوق برديات التشرد والعزلة والبكاء وأقرؤها على السابلة الهائمين أستجديهم ثمن أرغفة من الشعر أسد بها جوعي إلى الهذيان.. ثم أفترش أرصفة المتسولين في ليل الثلج والزمهرير وأهجع مفتوح العينين كقنفذ حزين لا عائلة له ولا أصدقاء.
-5-
لا يلزمني شيء الآن سوى الاندثار.. كل ما أريده موجود في حصالة حياتي الشعرية: الأوراق والأقلام.. المبراة والممحاة.. المنضدة على الركبتين.. الدخينة تلو الأخرى بين الشفتين... الذكريات والأوهام مع الوقائع والآلام.. الحبيبة في الحلم وجسدها العاري كالطيف يزور خيالاتي المريضة.. أرتقب قدومه ولا يأتي.. لا يلزمني إلا الموت لتكتمل قصيدتي بحضوره.
m.alskaf@msn.com