تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


«برازيليا» لأوسكار نيماير: العاصمة التي شيّدت مثل قطعة فنية

فضاءات ثقافية
الثلاثاء 19-2-2013
دون تردد، كان أوسكار نيماير يعلن دائماً أنه «عولمي» بالمعنى الحضاري للكلمة، ما كان يعني في رأيه أنه «أممي». وللتدليل على ذلك كان يبدأ باستعراض اسمه، وهو اسم طويل جداً على الطريقة الإسبانية المعهودة، أي يتألف من نحو عشرة أسماء متتالية.

وهو إذ كان يستعرض هذا الاسم المركب، كان يقول لسامعيه: «أرأيتم؟ إن في عروقي– كما يدل اسمي– دماء تنتمي إلى الكثير من الجنسيات والأعراق، فأنا ألماني وإسباني وبرازيلي وعربي ويهودي... وأعتقد ان هذا الأمر يلائمني كثيراً!».‏

أوسكار نيماير الذي توفي أواخر عام 2012 عن عمر يزيد عن مئة وستة أعوام كان واحداً من أعظم المهندسين العمرانيين في القرن العشرين، كما كان واحداً من اهمّ المجددين في هذا المجال، إلى درجة أنه كان من قلة من المبدعين الذين ما إن يذكر العمران المعاصر حتى يرد اسمهم في البال. أما «أمميته» فكانت ذات بعدين، فمن ناحية كان توجهه في تصميماته العمرانية، كونياً ينهل من شتى المنابع ومصادر الإلهام، ومن ناحية ثانية كان منتمياً إلى الفكر الشيوعي بكل صراحة ومن دون لفّ أو دوران. وهو حتى بعد سقوط الأنظمة الشيوعية في العالم بسنوات طويلة، ظلّ يعلن ذلك الانتماء... لكنه كان يضيف– كما فعل دائماً– إن شيوعيته تتعلق بالعدالة الاجتماعية، وبتحرر الشعوب، لا بابتذال الفن على الطريقة التي ابتُذل فيها الفن على أيدي الستالينيين. ومن هنا كان من الصعب جداً على من يتأمل أعمال نيماير العمرانية المنتشرة في وطنه، البرازيل بخاصة، (كما في أنحاء عدة من العالم ومنها الجزائر حيث بنى واحدة من أجمل جامعاتها بناء على طلب الرئيس الراحل هواري بومدين, وفرنسا حيث شيّد مقر الحزب الشيوعي الفرنسي حين كان مقيماً في باريس منفياً إثر قلاقل سياسية في وطنه)، أن يخمّن أن من صممها وحققها ينتمي إلى ذلك الفكر المتجهم الذي بنى أقبح العمارات والمنازل في دول أوروبا الشرقية. والحال أن العمل الأكبر والأهم في مسار نيماير، كان مساهمته الأساسية في تشييد مدينة برازيليا، العاصمة الجديدة للبرازيل والتي لم تنجز بكاملها حتى الآن، رغم مرور أكثر من نصف قرن على البدء في إنشائها.‏

يعزى إنشاء مدينة برازيليا في شكل عام إلى الرئيس البرازيلي المتنور خوسيلينو كوبيتشيك الذي حكم البرازيل أواسط سنوات الخمسين من القرن العشرين. لكن الواقع التاريخي يقول لنا إن رئيسين على الأقل من رؤساء البرازيل خلال القرن التاسع عشر ولا سيما أولهما خوسيه بونيفاسيو، كانا هما من فكر أولاً بضرورة أن تكون للبرازيل عاصمة جديدة تقع وسط البلاد، لكن المشروع ظل يؤجل حتى وُضع حجر الأساس بالفعل عام 1922 أي بعد قرن بالتمام والكمال من اتخاذ بونيفاسيو قراره، وبعد أربعين عاماً من تشكيل اللجنة الوطنية المكلفة تحقيق المشروع. لكن وحتى بعد اختيار المنطقة التي سيقام عليها وتبلغ مساحتها مع أطرافها أكثر من 14 ألف كيلومتر مربع، راح المشروع يراوح من جديد... ولكن منذ استقدم الرئيس كوبيتشيك نيماير لينفذ مخططات أولى كان صاغها المهندس المخضرم لوتشيو كوستا، بدأ التنفيذ الفعلي وقد أضحى نيماير مهندساً منفذاً ثم بالتدريج راح يصمم وينفذ المباني الحكومية والكثير من المباني الأخرى التي تشكل نواة المشروع. وكما أشرنا، لا تزال برازيليا غير مكتملة حتى اليوم. وهي تثير بين الحين والآخر سجالات حول جدواها... غير أن هذه السجالات لم تطل أبداً مساهمات نيماير العمرانية فيها... بل على العكس من هذا، تعتبر هندسة نيماير هنا هندسة مستقبلية شديدة الحداثة مصاغ كل مبنى من مبانيها كقطعة فنية قائمة بذاتها مشكّلة درساً في الحداثة والأصالة العمرانية في الوقت نفسه.‏

إن أفكار أوسكار نيماير (1907-2012) الهندسية كانت على الدوام أفكاراً خلاقة وتسير عكس التيار، وهي بالتأكيد لم تكن على تطابق مع تلك الأفكار التي تزعم أن العمران يجب أن يكون «ملتصقاً بالشعب». وعبّر عن هذا بشكل واضح على صفحات ذلك الكتاب الممتع الذي سجل فيه فصولاً من حياته ونتفاً من تجاربه تحت عنوان «منحنيات الزمن» ويعلن فيه أن البناء الضخم لم يخفه في حياته مؤكداً: «الصروحية لم تكن أبداً بالنسبة إليّ مغامرة غير مأمونة»، كما أشار في الوقت نفسه قائلاً: «بعد كل شيء، إن ما يبقى من العمران إنما هو الأبنية الضخمة– الصروح– أي تلك المباني التي تطبع بطابعها التاريخ والتطور التقني في آن معاً... ومن هنا أراني أرفض تماماً الفكرة المزيفة التي تنادي بهندسة بسيطة تعتبر قريبة من الشعب».‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية