تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


نكش القبور

الملحق الثقافي
19-2-2013م
قصة: علي ديبة:سعد الدين الكبير، هذا هو اللقب الذي ميزه عن اسمه القديم. يوم مات فرح من فرح واستاء من استاء من أهالي قرية الخرسا،

غير أن العادات والتقاليد غلبت رغبتهم بإظهار مشاعرهم الحقيقية، إذ لا تصح الشماتة مع إرادة الله وحكمته، ولا يجوز على الميت سوى طلب الرحمة، لكن حدثاً كهذا الحدث هيأ موكباً لم تشهده المنطقة منذ إعدام المتمرد على الإقطاع والدرك أبو علي شاهين رحمه الله، وشتّان ما بين الموكبين.‏

قبل ربع قرن من الزمن لم يكن هذا الكبير كبيراً، بل كان لا يملك أكثر من تصغير لاسمه الأول، ذهب سعدو، عاد سعدو، فعل سعدو كذا وكذا، ولازمه هذا اللقب حتى نال شهادة البكالوريا. شهادة لم تغير أو تبدل من مكانته، فقد عرف سر نجاحه الأعداء قبل الأصدقاء، بعدما عضّ رئيس المركز أصابعه ندماً، وأكد أنه من كان وراء نجاحه.‏

لسنوات ظل الشاب بعيداً عن قريته الخرسا، لسنوات كان الناس يلتقطون أخباره من أخواله وأعمامه ومن الذين وقفوا عند منعطف لافت من منعطفات ابن قريتهم، ظلت سيرته مختلفة عن سواها، مرة يسمعون أنه يعمل في السلك الدبلوماسي، ومرة يقولون إنه يقضي معظم أوقاته في الأندية والمقاصف والمطاعم الفخمة بصحبة رجالات الدولة والمهمين في العاصمة. هكذا ترددت الأحاديث والأقاويل في طول المنطقة وعرض المحافظة، جميعها تشي بأهمية تربع على عرشها. الذين قصدوه ووقفوا عند عتباته، عادوا بلسان معوج وشفاه مذمومة، ثم أفلتوا لسانهم قائلين: نعَمْ الرجل أفادنا في مسعانا، لكن ذلك لم يكن خالصاً لوجه الله. والذين عادوا بخفي حنين شتموا من نصحهم بالذهاب إليه، بعدما عرفوا أن مشكلتهم تحل بأقل من نصف المبلغ الذي أراده لجيبه.‏

بعد سنوات قصار انتقل تودد الناس إلى جميع أقاربه القريبين والبعيدين، تدخلوا فيما ينفع وما يضر، كأنهم ورثوا ذلك الفانوس السحري، لا أحد يرفض لهم طلباً، ابن خالة خالته سطا على ألف متر من الشاطئ بحجة أن جدته سوف تتشمس وحيدة بالمايوه، والبكر من عائلة ابن عم عمه صار لاعباً في المنتخب الوطني بعدما ادعى أن نادي برشلونة الإسباني قد يضمه إلى صفوفه، والحبل مازال يطول ويطول، جاره تسلم رئيس صندوق هيئة الكتّاب المخضرمين واقتسم معه ما يمكن اقتسامه، وآخر أضحى مطرباً، وسواه انتقل من تحت إلى فوق، وكثر هم الذين أضرهم وقلب فيهم ظهر المجن.‏

كأن المشيعين من أبناء هذه المنطقة المنكوبة لا يحفلون ولا يكترثون بنار اكتوت بها جلودهم، أو أن ذاكرتهم اضمحلت وتلاشت رهبة ومهابة، ولعل الخوف سطا على عقولهم، فأبقوا ألسنتهم مغلولة إلا من توسلات منافقة، عساه سبحانه يبوّء هذا الراحل مكاناً في الجنة كما هو في الحياة الدنيا، وهم بهذا يظهرون غير ما يبطنون.‏

مشت في موكبه أرتال لا حصر لها، رتل طويل طويل من تلك السيارات السوداء الفخمة، تبع خمس عربات إسعاف مغطاة بشتى أنواع الأكاليل والورود، تهادت خلفه أنساق من السيارات الرمادية والبيضاء، ليأتي بعدها دور مركبات النقل الصغيرة والكبيرة وآلاف مؤلفة من الدراجات النارية، وسواها من وسائط النقل والشحن والتحميل، التي ملأت فضاء المكان بأبواق تصم الآذان وهباب يسطم الأنوف. زحام ما مثله زحام، تدافع معه الناس عقب صلاة الجنازة لمصافحة رجال العائلة المنكوبة، ولولا حكم الباري ولطفه بالعباد لانقلب ذلك العزاء إلى مأتم من نوع آخر.‏

بعد أسبوع فعلها مجهول حاقد ومنتقم، نكش ذلك القبر وأفرغ فوق الجثة صفيحة من الروث المخلوط ببقايا المراحيض والمجارير. شاع الخبر وانتشر كما لم ينتشر خبر قبله، وأحدث بين الناس ردود أفعال فتحت كل ملفات الرجل القديمة والجديدة، وبقي سؤال واحد يتردد في الأروقة والأزقة الشعبية، والشوارع الحكومية والرسمية، مَنْ هو الفاعل الذي عبث بجثمان الميت وعراه من ثياب الدنيا والآخرة؟ دول كثيرة، منظمات إنسانية وحقوقية وجهت أصابع الاتهام باتجاه دول معروفة بأضراسها وأنيابها، وهذه بدورها خاتلت وأصدرت بياناً استهجنت فيه مثل هذا الفعل الهمجي، أحزاب استنكرت، أحزاب أيدت، وبقي الفاعل طليقاً وغير آبه بمن راح يفتش عنه في البيوت والحارات، في المجالس والملتقيات.‏

أصحاب السيارات السوداء أجابوا غاضبين:‏

اليوم نكشوا قبر هذا الوسيط التافه، ربما وصلت أيديهم إلى سجلاتنا مستقبلاً.‏

أصحاب السيارات الرمادية والبيضاء تكاتفوا وتآلفوا وتهامسوا خائفين:‏

- طالما أن حد السكين وصل إلى الرقاب الثخينة، فإن رقابنا ستغدو قريباً تحت المقصلة.‏

أصحاب ذلك الزحام الملون انقسموا انقسامات غريبة عجيبة، منهم من تخلى عن نفاقه وترك للسانه العنان، كأن سيلهم الكاره كان مسدوداً بقشة، فانفلت في كل الاتجاهات. ومنهم من ذهب في تحليلات سياسية لا تقاس بالشبر ولا تعرف بالمتر.‏

بعد إفلاس الجهات المعنية والرسمية والرقابية، رضخ الأبناء لرغبة الأهل والأقرباء، دعوا عائلة من البصارين والمنجمين والعرافين علهم يميطون اللثام عن وجه امتلأ بكل هذا الحقد. وهؤلاء أوقدوا قناديل زيت خافتة لاستحضار ملوك الجن وأمرائهم. لمّا امتلأ فضاء المكان بدخان الزيت الثقيل، وصار الحاضرون لا يعرفون بعضهم بعضاً، ارتفع صوت مترجرج، بدا وكأنه صاعد من فم جرة فارغة، أكّد للحاضرين قائلاً: أنا ملك ملوك الجان، جئت لأقول لكم إن من نكش قبر سعدو الكبير هم أهل اليسار السياسي، فعلوها به لأنه كاد لهم كيداً جثم على صدورهم. خالف هذا القرار صوت مشابه ادعى صاحبه أنه أمير أمراء قبائل الجن النورانيين، الذي رأى بما جرى فعلة شنيعة لا يفعلها سوى اليمين الفاشي المتطرف، وخلص الصوت الأخير إلى اتهام أدان فيه جمهرة من الرعاع والمهمشين والمسحوقين الذين عزّ عليهم رغيف الخبز.‏

سنوات مرت على هذه الواقعة، تلاشت كما نتلاشى نحن البشر من ذاكرة الأيام. في زمن حيادي لاحق، قالت زوجته مواربة: عقود طويلة وهو يطعنني في ظهري، أنا مستعدة لفعلها ألف مرة أخرى لو عاد سعدو إلى الحياة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية