بل أيضاً بسبب الأشعار التي تضمنتها وخاصةً تلك الصادرة على لسان إحدى شخصيات الرواية «ميغـنون» ذات القصة التراجيدية.
وتتناول هذه الرواية حياة ثري ألماني يدعى «فيلهلم» ينأى عن مجتمع البرجوازية ويعيش حياة التنقّل والأسفار فيلتقي العديد من الشخصيات خلال ترحاله ومنها الفتاة الإيطالية ميغـنون ذات الثلاثة عشر ربيعاً والتي كانت قد اختطفتها فرقة سيرك من موطنها الأصلي إيطاليا وعرّضتها لسوء المعاملة، فيتولّى فيلهلم رعايتها ويتعلّق بها إلى درجة كبيرة.
أسرت شخصية ميغـنون وأغانيها الكثير من الكُتّاب والملحنين مُلهِمَةً العديد من المقطوعات الموسيقية حيث قام العشرات بتلحين أغانيها ومنهم تشايكوفسكي، موزارت، ولف، بيتهوفن، شوبرت وآخرون. وتوصّف ميغنون بأنها فتاةً حيوية، عفوية وقويّة، فيها بعض الغرابة والغموض، ذات أقوالٍ وردودٍ مبهمة أحياناً يصعب تحديد فيما إذا كانت ممازحة أم أنها تخلط بشكل متعمَّد أو عَرَضي بين لغتها الأصلية واللغة الألمانية والفرنسية. كما وتنطوي شخصيتها على كآبة عميقة ناجمة عمّا قاسته في حياتها وعن لوعة بعادها عن موطنها الذي انتُزِعَت منه، فتنشد قصيدة توق وحنين إلى بلادها تُعَدُّ إحدى أشهر قصائد الأدب الألماني على الإطلاق، فتقول:
أتعرفُ الأرضَ حيث يزهرُ الليمونُ الحَمضي؟
وبين ورق الشجر الداكن يزهو برتقالٌ ذهبي،
ونسمةٌ عليلةٌ من السماء الزرقاء تجري
والآسُ ساكنٌ والغارُ سامقاً يستوي
أتعرفها جيداً؟
هناك، هناك
أتوقُ يا حبيبي معاً لنمضي.
أتعرفُ المنزلَ ذا السقف الراقد على الأعمدةْ؟
••
تتألّقُ الصالةُ وتتلألأ الحُجرةْ
وتماثيلُ الرخام تقف وترنو إليَّ:
«ماذا فعلَ لكِ الإنسانُ أيتها الطفلةُ الشقيّة؟»
أتعرفه جيداً؟
هناك، هناك
أتوقُ يا حاميني معاً لنمضي.
••
أتعرفُ الجبلَ ودربَهُ المُغِيم؟
البغلُ يتلمّس طريقه في السديم؛
وذُرِّيَّة التنين القديمة في الكهوف تنضوي
والصخرةُ تهوي وفوقها السيل يهمي!
أتعرفه جيداً؟
هناك، هناك
تمتدُّ طريقنا يا أبَتاه، فلنمضِ!
••
تتمازج في شخصية ميغنون البراءة الطفولية مع النضج العقلاني، إذ لم تكن تبدو ناضجةً أكثر من عمرها فحسب، وإنما كانت أيضاً تتمتع بقدرات حدسيّة عالية تمكّنها من سبر أغوار مشاعر مَن حولها وخاصةً راعيها فيلهلم الذي كانت تتماهى معه وتعكس رغباته ومزاجه في بعض أغانيها وأقوالها كما في هذه الأغنية التي تبلور فيها مشاعره وهو الذي يتوق لحبيبةٍ ما في مكانٍ بعيد عنه:
وحدهُ مَن يعرف الشوقْ
يدركُ ما أعاني
وحيدٌ ومُفترقْ
عن كلِّ المَهاني،
للسماء أُحدقْ
نحو العَنانِ.
مَن يهواني ويعرفني بِحَقْ
بعيدٌ عن مكاني.
أحشائي تحترقْ
ودَوّامةٌ تغشاني
وحدهُ مَن يعرف الشوقْ
يدركُ ما أعاني!
ويرى النقاد أن غوته كان يعكس جوانب من ذاته وأحاسيسه في العديد من فصول روايته، مثل نزعته في الاتجاه نحو الطبيعة والابتعاد عن الحياة البرجوازية كما هي حال فيلهلم، وكذلك فإن أنشودة ميغنون في توقها وحنينها إلى وطنها تعكس أيضاً مشاعر غوته تجاه إيطاليا التي قضى فيها سنتين شكّلتا ذُخراً لحياته الأدبية.