تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الاقتصاد العالمي في دوامة السياسة والمال

الملحق الثقافي
19-2-2013م
حاتم حميد محسن:من المدهش أن الاقتصاد الكلي الحالي يحظى بسمعة سيئة، سواء بين عامة الناس أو بين الاقتصاديين في الحقول الأخرى.

هناك القليل من الإجماع حتى على الأسئلة الأساسية في الاقتصاد الكلي. لو وجّهنا أسئلة لكبار الأكاديميين عن سبب البطء الشديد في انتعاش الاقتصاد الأمريكي بعد الأزمة المالية الأخيرة، سوف نستمع إلى العديد من الإجابات المتضادة والمختلفة. ولكن السبب الأكثر وضوحاً لهذا الازدراء الواسع للاقتصاد الكلي هو أن مهنة الاقتصادي فشلت في التنبؤ بإمكانية حدوث أكبر وأشد هبوط اقتصادي منذ الكساد الكبير في 1930.‏

يسعى حالياً العديد من الاقتصاديين إلى إعادة بناء الاقتصاد الكلي، وذلك بمزج الأفكار التي نُبذت في السابق مع تقنيات حسابية ورياضية جديدة شديدة التعقيد.‏

في جهد متميز قام كل من «Markus Brunnermeier» و «Delwin Olivan» من جامعة برنستون بعرض سلايد يوضح تاريخ موجز للاقتصاد الكلي»1». كما يبدو من السلايد أن تاريخ الماكرو نشأ عبر سلسلة غير منتظمة من الأحداث. النماذج السائدة في مرحلة ما يبدو أنها تعمل وتستمر في العمل لحين ظهور أشياء جديدة تفرض إعادة التفكير. بعد ذلك يبقى الأكاديميون يعملون ممضين أوقاتهم بكسل حتى تأتي نقطة تحول جديدة. استجابةً للكساد الكبير طوّر «جون ماينرد كينز» فكرة ثورية وهي أن الأفعال المفيدة انفرادياً تُنتج محصلات غير مرغوبة لو أن جميع الأفراد قاموا بها في وقت واحد. أما «ارفنك فشر» أوضح أن المستوى العالي من الديون يجعل الاقتصاديات هشة وسريعة التعرض للهبوط الحلقي للانكماش والى العجزعن سداد الديون. وبالنسبة إلى «سيمون كوزيت» فهو لم يطور أي نظرية جديدة لكنه لعب دوراً رئيسياً في خلق حسابات الدخل القومي والناتج القومي. قبلهُ لم تكن هناك معرفة كافية لدى صناع السياسة والمستثمرين والمواطنين حول ما إذا كان الاقتصاد يتراجع أم ينمو. كان على الـ «FDR» الوثوق بمؤشرات مثل سعر الحديد الخام أو حجم حركة سيارات الشحن، بدلاً من الناتج الإجمالي المحلي.‏

في أواخر 1940، انتهى الكساد الكبير وتوفي كنز. كان «Paul Samuelson» الرجل الذي وضع الأجندة للعقود اللاحقة باستخدامه أفكاراً من النظرية العامة لكنز في «الاستخدام، الفائدة، النقود»، وأوضحها في نماذج رياضية. مساهمات ساملسون كانت هامة لكنها لسوء الحظ أهملت العديد من الأشياء، خاصة رؤية كنز لطبيعة النظام المالي. بالنسبة إلى ساملسون وأتباعه، يرون أن المصارف والوسائط الأخرى هي مجرد حاجز بين أصحاب التوفير والمقترضين في القطاع غير المالي، بدلاً من أن تكون شركات باحثة عن ربح تجعل من القروض صفقة رابحة. وإذا كان هناك بعض الرافضين الأوائل خاصة «جون جيرلي» و»إدوارد شو»، إلا أن التيار الرئيسي وحتى وقت قريب من حدوث الأزمة اعتقد أن المالية ليست بالشيء الهام.‏

إن العديد من المتخصصين في الاقتصاد الكلي كانوا مرتاحين لتجاهل المالية لأنهم درسوا خصيصاً الولايات المتحدة البلد الذي لم يشهد أزمة هامة منذ الثلاثينات. الحكومة من جهتها استجابت بخلق ضمانات للإيداعات وكسرت آخر بقايا نظام الذهب، وهو ما جعل معظم الاقتصاديين يعتقدون أن أي أزمة مستقبلية غير ممكنة الحدوث في الأقطار الغنية. وطوال عدة عقود، برز الدليل المؤيد لهذه الأطروحة، رغم أن المراقبين الراصدين للأحداث في اليابان والشمال كانوا أكثر حذراً.‏

لذا فإن نماذج الماكرو الأصلية لما بعد الحرب استبعدت النظام المالي. ولكن ماذا تضمنت تلك النماذج؟ كانت النماذج التجريبية السائدة ترتكز على فكرة أن العلاقات المُلاحظة في الماضي سوف تستمر في المستقبل. وهذا ليس بالضرورة خطأ. على سبيل المثال، التغيرات في عدد الناس الحاصلين على وظائف يتطابق بشكل جيد مع مستوى العاطلين عن العمل. الآلاف من المعادلات الخطية المرتكزة على هذا النوع من العلاقات قد دُمجت في أنظمة هائلة. وطوال عدة عقود، قامت هذه النماذج، في الواقع، بوظيفتها على أكمل وجه. أكثر الاقتصاديين شهرة تنبأوا في بداية الستينات أن اقتراح جون كندي بخفض الضرائب سوف لن يضيف إلى العجز لأنه سوف يشجع النمو السريع، وهو ما ثبتت صحته.‏

إن المشاكل التي برزت في السبعينات مثل «الركود التضخمي»، وهي الظاهرة الأقبح التي يعاني منها الاقتصاد «حيث يترافق الارتفاع السريع في الأسعار مع مستويات عالية من البطالة» لم تكن متوقعة – مع ذلك كانت تعاني منها دول العالم الغنية. المشكلة كانت أن بعض العلاقات التي لوحظت في الماضي يمكنها أن تنهار حالما يسعى صناع السياسة إلى استغلالها عمداً، هنا نجد صناع السياسة اتكأوا بقوة على منحنى فيليبس. وجد «A.W Philips» أن الزيادة في الأجور الاسمية تترافق تاريخياً مع النسبة العالية للبطالة، بينما الزيادة البطيئة في الأجور ذهبت متلازمة مع مستويات عالية للبطالة. قبل «فيليبس» اكتشف «ارفنك فشر» – الرجل الذي اخترع مفهوم انكماش الديون- علاقات مشابهة بين التغيرات في الأجور الاسمية والتغيرات في الاستخدام في أمريكا. وإذا كان فيليبس ذاته لم يفترض أن العلاقات التي اكتشفها كانت قانوناً حديدياً للطبيعة «2»، إلا أن اقتصاديين آخرين بما في ذلك «بول ساملسون» افترضوا ذلك بالفعل. هم اقترحوا أن صناع السياسة واجهوا مساومة بسيطة بين البطالة والتضخم، تمثلت على منحنى فيليبس. بإمكان صناع السياسة اختيار أي نقطة يرغبونها على المنحنى.‏

المشكلة في مثل هذا النوع من الموديلات أو النماذج هي أنها تجاهلت العنصر الإنساني. التغيرات غير المتوقعة في مستوى الأسعار أو الأجور الاسمية تغيّر أسعار الفائدة الحقيقية، وأعباء الدين الحقيقي، وتكاليف العمل الحقيقية. ذلك يعني أن أي صعود مفاجئ في التضخم يمكن أن يسبب ازدهاراً مؤقتاً في الاقتصاد، والذي مع أشياء أخرى سوف يقلص مؤقتاً نسبة البطالة. ونفس الشيء، بالنسبة للانكماش غير المتوقع قد يسبب مقداراً كبيراً من الضرر. كل من فشر وفيليبس كانا ينظران إلى البيانات متأثرين بعصر مستوى الذهب حينما توقع عامة الناس أن الأسعار ستبقى مستقرة. أي تغيرات ثابتة ستكون انحرافاً عن التوقعات، وهو يبين لماذا العلاقات التي اكتشفوها بدت كأنها راسخة. ولكن إذا كان الناس يتوقعون غير المتوقع وتكيفوا مع نسبة التضخم الجديد والسريع، فإن العلاقات التاريخية المُلاحظة سوف لن تصمد. ذلك ما حدث في السبعينات. منذ ذلك الحين أدرك الناس أن أي هبوط اقتصادي سوف يشجع صناع السياسة على تحفيز الفعالية الاقتصادية عبر استدعاء التضخم السريع. لم يعد هناك اعتقاد بأن الزيادة السريعة بالأسعار هي ظاهرة «مؤقتة»، هم سحبوا النقود خارج النظام المصرفي المنظم، الذي كان غير قادر على دفع نسب تنافسية على الإيداعات مقارنة بنقود صناديق الاستثمار الجديدة. إن كلفة التمويل بالأسهم «عوائد المردود» تصاعدت، وهو ما زاد من النسب العالية للبطالة وبشكل فاق المتوقع.‏

جيل جديد من الاقتصاديين الكليين أمثال «اي دي فيليبس»، «روبرت لوكاس»، «توماس سارجنت»، «كرستوفر سم»، «روبرت بارو»، استجابوا للتحدي في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات. هم استبدلوا النماذج الميكانيكية التجريبية بأخرى بسيطة وأنيقة – تحتوي في معظم الحالات على عدد محدود من المعادلات. وبدلاً من الاهتمام في متغيرات تراكمية مثل عدد ساعات العمل المنجزة في العمل أو مستوى مبيعات التجزئة، هذه النماذج الديناميكية العشوائية العامة للتوازن «DSGE» ارتكزت على أرباب المنازل الفرديين والشركات التي حاولت القيام بأفضل عمل تستطيعه في تحدي العالم.‏

من السهل تقليد التكنيكات التي استُخدمت من قبل هؤلاء الثوريين. لا أحد في الواقع يتخذ قرارات يومية حينما يفكر بكيفية تعظيم صافي القيمة الحالية لدخله المستقبلي. «هذا ما يعنيه الناس عندما يتحدثون عن «التوقعات الرشيدة»». وحتى لو قام الفرد بذلك، فلن تكون لديه معرفة تامة عن العالم الذي يعيش فيه، والقليل من المعرفة التامة عن المستقبل. علاوة على ذلك، لم تكن في السبعينات قوة كومبيوترية كافية لتمثيل أكثر من صاحب منزل وشركة في وقت واحد.‏

اختار مؤسسو « DSGE» أيضاً تجاهل النظام المصرفي لنفس الأسباب كأسلافهم الكنزيين.‏

وعلى الرغم من هذه العقبات العديدة، إلا أن نماذج «DSGE» اكتسبت صوابية كبيرة بتوضيحها لـ «الركود التضخمي» بالإشارة إلى التغيرات في توقعات الناس.‏

أولاً، أن الانفجار المفاجئ في التضخم قد يقود إلى نمو اقتصادي سريع. وبمرور الزمن، سيعتقد الناس أن هذه النسبة للتضخم ستكون هي النسبة الجديدة العادية. أسعار الفائدة الحقيقية، الأجور، وأعباء الديون بالنهاية ستُعدل إلى مستوياتها القديمة. المكاسب في العمالة ستكون مؤقتة – وفي النهاية سوف تستقر عند «نسبتها الطبيعية». كذلك، أصحاب التوفير والمستثمرون سيصبحون باستمرار قلقين من رغبة الحكومة في تحفيز التضخم وزيادة علاوة المخاطرة التي يطلبونها على الأصول بعيدة الأجل. الحكومة قد تحاول جعل الزيادة في الأسعار أسرع وأسرع، آملة من هذه السياسة تجاوز توقعات الناس السريعة التكيف، ولكن النتائج ستكون مؤلمة.‏

تمثل نماذج «DSGE» رياضياً الاقتصاد ككرة مستقرة في قعر واد منحنٍ. هذه الحالة مساوية للنمو المتوازن والثابت. عندما تُصاب توقعات أرباب المنازل والشركات بـ «صدمة»، فإن الكرة ستتدحرج صعوداً ونزولاً بأي اتجاه حتى تعود في النهاية لتستقر في مكانها المألوف. هذا بالطبع يعكس ميل الاقتصاد للانتعاش بسرعة بعد الركود، وليؤكد حقيقة أن الطفرات نادراً ما تستمر. الاقتصاديون يحسّنون واقعية نماذج «DSGE» بإضافة المعوقات والمعجلات frictions and» «accelerators»3» التي تؤثر على حركة الكرة بعد انطلاقها. الأكثر شيوعاً هو مرتكز على ملاحظة أن من الأسهل رفع الأجور والأسعار بدلاً من خفضهما، الأمر الذي يجعل من الصعب استجابة الاقتصاد «للصدمات» دون تضخم سريع أو بطالة عالية.‏

إن نماذج «DSGE» المتضمنة لهذه الآلية من التأثير الهام «الشد والجذب» تُعرف بـ «نماذج كنز الجديدة» أو «NK models». أما النسخة الأصلية للنماذج بدون تلك الخاصية من التأثير فيُطلق عليها بـ «دورة الأعمال الحقيقية» أو «RBC models».‏

إن مخاوف الدائنين المالية «financial frictions» و»المعجلات» لنماذج DSGE لم تُطور إلا مؤخراً، رغم أن أولئك الذين في مقدمة الماكرو الجديد يشيرون إليها بسخرية كـ «ترقيع». ومع كل ذلك، فهي لا تزال تفترض أن المصارف والوسطاء الآخرين هم مجرد ستار أو قناع بين المدخرين والمقترضين، بدلاً من أن تكون شركات باحثة عن الربح تصنع قروض ربحية. ذلك لا يعني أن الاقتصاديين الكليين تجاهلوا كلياً النظام المالي. عدد قليل، بما فيهم «Ben Bernanke»، المدير الحالي للاحتياطي الفيدرالي، كانوا يدرسون الأزمات المالية في بداية الثمانينات باستعمال بيانات من الكساد الكبير. لكن المعرفة المكتسبة من هذه الجهود لم يتم دمجها ضمن نماذج اقتصادية كمية عامة. فمثلاً، مستر «بيرنانك» كتب نموذجاً شهيراً في عام 1999 بموجبه يؤدي وجود الدين إلى جعل الهبوط الاقتصادي أعمق وأطول. ورغم أن النماذج تشير إلى التحسن بما هو موجود سلفاً، إلا أنها فشلت في توضيح لماذا معظم حالات الكساد لم تترافق مع الأزمات الحادة. إن «المعوقات» و»المعجلات» الناتجة عن وجود الدين هي دائماً تناسبية مع حجم «الصدمات» التي يتعرض لها الاقتصاد الحقيقي.‏

بالنسبة إلى الاقتصاديين مثل «Gary Gorton»، يرى أن هذا يتجاهل كلياً حقيقة أن الأزمات المالية هي أحداث متميزة ذات أسباب متميزة. إن موطن الضعف يكمن جزئياً في أن مستر بيرنانك وزملاءه «Mark Gertler and Simon Gilchrist» تركوا المصارف خارج نموذجهم.‏

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‏

الهوامش‏

The Economist, Jan21st 2013, M.C.K, WASHINGTON»1»‏

«2» القانون الحديدي للأجور اخترعهُ الفيلسوف الألماني Ferdinand Lassalle «1825- 1864 «، وفيه يؤكد أن الأجور لا يمكن أن تهبط إلى ما دون المستوى الضروري للبقاء، لأن بدون حد الكفاف لا يستطيع العمال العمل. غير أن المنافسة بين العمال على العمل سوف تدفع الأجور نحو الأسفل إلى أدنى حد. وهذا يأتي من نظرية مالتس السكانية التي ترى أن السكان يزدادون حينما تكون الأجور فوق مستوى الكفاف بينما يقل عددهم عندما تكون الأجور دون مستوى الكفاف. وعلى المدى البعيد، سيتساوى عرض العمل «السكان» مع العدد المطلوب من العمال عند مستوى الكفاف. لكن «ديفد ريكاردو» رفض مثل هذا التنبؤ واعتبر أن الاستثمار الجديد والتكنولوجيا وعوامل أخرى تؤدي إلى زيادة الطلب على العمل بوتيرة أسرع من الزيادة في السكان. وهنا سيزداد كل من الأجور الحقيقية والسكان بمرور الزمن.‏

«3» إن الصعوبات أو العوائق «financial frictions» تعني أن الدائنين لا يرغبون بالاقراض خوفاً من عدم التسديد لهم وهو الأمر الذي يجعل الأزمة أكثر سوءاً. أما المعجلات «accelerators» فهي نظرية اقتصادية ترى أن الطلب حينما يزداد في الاقتصاد، يزداد أيضاً استثمار الشركات. وحينما يؤدي التصاعد المستمر في الطلب لخلق فائض فإن الشركات أمامها خياران: إما أن ترفع السعر لكي ينخفض الطلب أو أنها تلجأ لزيادة الاستثمار من أجل مجاراة الطلب. نظرية المعجل ترى أن معظم الشركات تختار زيادة الإنتاج فتزداد الأرباح. هذا النمو بدوره يجذب مزيداً من المستثمرين فيعجّل النمو مرة أخرى.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية