تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تجربة العقل في الوجود

الملحق الثقافي
19-2-2013م
وليم جيمس/ ترجمة: عبد الرحيم حسو:برع الصوفيون الاحترافيون في أوج تطورهم بتنظيم تجارب لها فلسفتها القائمة عليها.

ومن المعروف أن الظواهر تفهم أكثر ما يكون عندما توضع في سياق تسلسلها، عندما تدرس في بذرة نشأتها وفي تحللها بعد تناهي نضجها، ومقارنتها مع حالات متقدمة ومتقهقرة من طبيعتها. للتجربة الصوفية مجال عريض وعريض جداً بأن نغطيها في الوقت المتاح لنا. مع ذلك فإن طريقة الدراسة التسلسلية ضرورية للشرح بحيث إذا أردنا حقاً التوصل إلى نتائج فعلينا استعمالها.‏

إن أبسط مبدأ للتجربة الصوفية يبدو في ذلك الإحساس العميق لأهمية حكمة أو صيغة معينة تخيم على المرء بين الحين والآخر.‏

«ظللت أسمع ما قيل طوال حياتي» يصرح أحدنا «بيد أنني لم أفهم معناه الكامل حتى الآن». عندما قال مارتن لوثر Martin Luther «وهو لاهوتي القرن السادس عشر الألماني» بأن صديقاً راهباً كرر في أحد الأيام كلاماً في العقيدة: «أنا أؤمن بمغفرة الذنوب»، لقد رأيت الكتاب المقدس في ضوء جديد كلياً، ومباشرة شعرت بأنني أولد من جديد. لقد وجدت كما لو أن باب الجنة مفتوح على مصراعيه».‏

هذا الإحساس بالأهمية القصوى ليس مقصوراً على افتراضات عقلية. فالكلمات المفردة، وترابط الكلمات، تأثيرات الضوء والبر والبحر، الروائح والأصوات الموسيقية، كلها تفعل فعلها عندما يولف العقل توليفاً صحيحاً. يستطيع الكثير منا أن يتذكر تلك القوة المحركة الغريبة لقراءة مقاطع من قصائد معينة عندما كنا صغاراً، إنها تمثل بالفعل مداخل لاعقلية ينسل عبرها إلى قلوبنا لغز الحقيقة، وحشية الحياة وغصتها، فتجعلها مثيرة طربة. لعل الكلمات أصبحت بالنسبة إلينا الآن مجرد سطوح مصقولة، ولكن كل من الشعر الغنائي والموسيقى يكون حياً ومهماً فقط بالقدر الذي يجعل من الصور المبهمة حياة تتواصل معنا بجاذبية وإغراء، ثم إنها في الوقت نفسه تظل تراوغ ما نبتغيه ونصبو إليه. نكون أحياء أو أمواتاً بالنسبة إلى الرسالة الداخلية الأبدية للفنون بقدر ما نكون فاقدين أو مبقين لهذه الحساسية الصوفية.‏

إن الخطوة الأكثر وضوحاً وتقدماً على السلم الصوفي تبدو ظاهرة متكررة جداً، هو ذلك الشعور المفاجئ، الذي ينتابنا «بأننا كنا هنا من قبل»، وكأنه قد حدث في وقت ما من الماضي، في هذا المكان بالضبط، أن كنا مع هؤلاء الناس بالذات، قائلين ما نقوله الآن.‏

يكتب ألفريد تينيسون Alfred Tennyson:‏

«فضلاً، شيء ما يبدو أو يكون‏

يصيبني بومضات صوفية‏

كما ومضات أحلام منسية‏

شيء ما شعرت، كما أشعر هنا،‏

شيء ما فعلت، لا أدري في أي دُنا‏

كأن لا لغة تعبير ذاك عليها يهون».‏

يقول تلميذ القرن التاسع عشر الهندوسي فيفيكناندا Vivekananda: «إن العقل بحد ذاته له حالة أسمى من الوجود، وراء المنطق، حالة فائقة الوعي، فإذا وصل العقل إلى تلك الحالة الأعلى، تأتي بعدها هذه المعرفة وراء المنطق.. كل الخطوات المختلفة في اليوغا تعنى بتوصيلنا على نحو كاف إلى الحالة الفائقة الوعي أو سمادهي Samâdhi.. تماماً كما عمل اللاوعي هو تحت الوعي، لذا يوجد عمل آخر هو فوق الوعي، وهو، أيضاً، غير مصحوب بشعور الأنانية.. فليس هناك شعور الأنا، ومع هذا فالعقل يعمل، مجرداً من الرغبة، بلا قلق، بلا قصد، بلا جسد.‏

من ثم فإن الحقيقة تتألق بألقها الكلي، ونعرف أنفسنا- لأن سمادهي كامنة فينا جميعاً- لأننا في الحقيقة، طلقاء، خالدون، كاملو القدرة، متحررون من المحدود، وهي برمتها تباينات للخير والشر، ومتطابقة مع النفس عموماً أو الروح الكونية».‏

أتباع الفيدانتا يقولون إن المرء قد يتعثر بالوعي الفائق بشكل متقطع، من دون الانضباط المسبق، لكنه في هذه الحالة يكون غير نقي. اختبارهم لنقاوته، مثل اختبارنا للقيمة الدينية، هو تجريبي: ثماره يجب أن تكون مناسبة للحياة. عندما يخرج إنسان من السمادهي، فإنه يؤكد لنا بأنه يبقى مستنيراً، حكيماً، قديساً، شخصيته الكلية تغيرت، حياته تغيرت، بالإضافة إلى الهندوس، فإن البوذيين يستعملون الكلمة «سمادي»، ولكن «دهايانا» dhyâna هي كلمتهم الخاصة لحالات أعلى من التفكر.‏

يبدو أن هناك أربع مراحل معروفة في دهايانا.‏

المرحلة الأولى تأتي من خلال تركيز العقل على نقطة واحدة.‏

إنها تقصي الرغبة، ولكن ليس الفطنة أو المحاكمة: فهي لا تزال ذهنية.‏

في المرحلة الثانية تسقط الوظائف الذهنية، ويبقى الإحساس المرتاح بالاتحاد. في المرحلة الثالثة تنصرف الراحة، وتبدأ اللامبالاة، برفقة الذاكرة ووعي الذات.‏

في المرحلة الرابعة، فإن الذاكرة، ووعي الذات يكتملان. «أما ما تعنيه الذاكرة ووعي الذات فهو مبهم. فلا يمكن أن تكون الملكات المألوفة لنا في الحياة الأدنى».‏

مراحل أعلى لا تزال من التفكر يتم ذكرها - حيث منطقة لا يوجد فيها شيء، وحيث أن الوسيط يقول: «ليس هنالك من شيء إطلاقاً» ويتوقف. ثم يصل إلى منطقة أخرى حيث يقول: «ليس هناك أفكار ولا غياب أفكار»، ويتوقف ثانية. من ثم منطقة أخرى حيث «الوصول إلى منتهى الفكرة والمفهوم، يتوقف أخيراً».‏

يبدو أن هذه ليست النرفانا بعد، ولكنها الأقرب لها ضمن ما تتيحه هذه الحياة.‏

في العالم الإسلامي فإن الفرق الصوفية وجماعات الدراويش المختلفة هي أصحاب التقليد الصوفي. وجد الصوفيون في بلاد فارس منذ أقدم الأزمنة، وحيث أن عقيدتهم في وحدة الوجود على خلاف كبير مع عقيدة التوحيد الصارمة والحازمة عند العقل العربي، فقد كان الطرح بأن الصوفية لابد أنها انتشرت في الإسلام عن طريق تأثيرات هندوسية.‏

الغزالي، فيلسوف ومتكلم ديني فارسي، ترعرع في القرن الحادي عشر، ويصنف كأحد علماء الإسلام الكبار، ترك لنا إحدى السير الذاتية القليلة التي يمكن العثور عليها خارج الأدب المسيحي.‏

لقد ترجم م. شمولدرز جزءاً من سيرة الغزالي الذاتية إلى الفرنسية: «علم الصوفية» يقول الغزالي «يهدف إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله. كان العلم أيسر علي من العمل، فقرأت «كتباً معينة» حتى فهمت كل ما يمكن تعلمه بالدراسة والسماع. ثم أدركت بأن ما يوصل إلى خاصة طريقتهم لا تدركه دراسة، بل الذوق والحال وتبدل الصفات.‏

كم كبير، على سبيل المثال، هو الفرق بين معرفة تعريفات الصحة، الشبع، بأسبابهما وشروطهما، وبين أن تكون بالفعل صحيحاً أو شبعاناً. كم مختلف أن تعرف مم يتشكل السكر- من حيث كونه حالة يجلبها بخار يتصاعد من المعدة- وأن تكون ثملاً بقوة. بدون شك، ليس للسكران أن يعرف حد السكر ولا ما يجعله مهماً بالنسبة للعلم. كونه سكراناً، لا يعرف شيئاً، في حين أن الطبيب، رغم أنه غير سكران، يعرف جيداً أركان السكر، وشروط تشكله.‏

على نحو مماثل هنالك فرق بين معرفة طبيعة الزهد، وبين أن تكون زاهداً عازفاً عن الدنيا.‏

هكذا فقد تعلمت ما تعنيه الكلمات التي يمكن تعلمها من التصوف، لكن ما تبقى فلا يمكن تعلمها، لا بالدراسة ولا بالسماع، ولكن بتسليم النفس للذوق وحياة التقوى».‏

«هذا الرجوع إلى بغداد زاد من رغبتي في حياة الخلوة، وتصفية القلب للذكر. لكن تقلبات الزمان، مهمات العيال، ضرورات المعيشة، غيرت في وجه المراد، وشوشت صفوة الخلوة. لم يكن أبداً يصفو لي الحال بعد، إلا في ساعات متفرقة، مع ذلك أبقيت الأمل في بلوغ هذه الحالة. في كل مرة صرفتني عنها الحوادث، نشدت العودة إليها، وأمضيت في هذه الحالة عشر سنين.‏

خلال حالة الخلوة هذه، انكشفت لي أمور لا يمكن وصفها ولا إحصاؤها. علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، في حركاتهم وسكناتهم، في الظاهر وفي الباطن، إنهم مقتبسون من نور مشكاة النبوة.‏

أول شرط الصوفي هو تطهير القلب بالكلية عما سوى الله. المفتاح التالي للحياة التصوفية هو في الصلوات المتضرعة التي تخلص من الروح المتقدة، وفي استغراق القلب بذكر الله كلياً. لكن في الحقيقة هذا هو فقط بداية حياة الصوفي، آخر الصوفية هو الفناء الكلي في الله.‏

المكاشفات وكل ما يسبقها، إذا جاز التعبير، فقط هي أول الطريق للسالكين. من أول الطريق، تحدث التجليات بشكل صارخ جداً بحيث أن الصوفي يرى أمامه، بينما هو يقظان، الملائكة وأرواح الأنبياء.‏

إنهم يسمعون أصواتهم ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجة يضيق عنها كل تعبير، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ.‏

«كل من ليس لديه تجربة الذوق فليس له أن يعرف من حقيقة النبوة إلا الاسم. قد يتيقن من وجودها، بكلا التجربة وما يسمعه من أقوال الصوفيين. كما أن هناك من وهبوا الملكة الحسية فقط، فهم يستبعدون كل ما يعرض عليهم من مدركات الفهم المحض، فكذلك هناك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة واستبعدوها.‏

الإنسان الأعمى لا يفقه شيئاً عن الألوان إلا ما قد علم بالرواية وبالتسامع.‏

وقد قرب الله صفة النبوة على البشر بأن أعطاهم جميعاً حالة مشابهة لها في خصائصها الرئيسية.‏

لو أنك أخبرت أحداً لم يكن قد اختبر بنفسه هكذا ظاهرة بأن هناك أناساً يخرون مغشيين كالموتى، وهم «في منامات» مع هذا يدركون أشياء غيبية، لأنكر ذلك «وقدم حججه». ومع ذلك، فإن حججه ستدحض بالتجربة الفعلية. لذلك، فالإدراك هو مرحلة من مراحل حياة الإنسان التي فيها تفتح العين لتدرك أشياء ذهنية لا يدركها الحس. وكذا تماماً في النبوة حيث تضاء العين بنور يكشف أشياء وأموراً غيبية لا يدركها العقل.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية