فهوبر، وإن كان أول من حرص على التخلي عن التيارات الأوروبية وإرساء فن أميركي خالص، له علاقة خاصة بباريس ومراسمها ومتاحفها وكبار فنانيها، فقد عاش فيها ما بين 1906 و1910.
أخذ «إدوارد هوبر» فنون الرسم عن أساتذة فرنسيين خصوصاً روبير هنري «1929-1865» الذي علمه كيف يتمثل مشاهد واقعية من الحياة الحضرية، وأنجز لوحاته الأولى عن نهر السين واللوفر وجسر الفنون أثناء إقامته بعاصمة الأنوار وحتى بعد عودته إلى نيو يورك. ولم يتخلص من المؤثرات الباريسية إلا بداية من 1920، حيث تميز عن نظرائه الأمريكان الذين انخرط معظمهم في الفن التجريدي، واختط لنفسه نهجاً خاصاً استفاد خلاله من دراساته الأولى في الهندسة المعمارية، واتبعه في مجمل أعماله، حيث يقوم العمل الفني عنده على أشكال هندسية بسيطة، ومساحة عريضة من لون واحد، مع استعمال عناصر هندسية كالخطوط العمودية والأفقية والقطرية أو المنحرفة.
لا يقر هوبر بتأثره بأحد، فهو لم ينسق مثل رسامي جيله وراء الحركة التكعيبية حينما كان في باريس، بل اهتم بالانطباعيين وخصوصاً إدغار دوغا، مثلما انجذب إلى أعلام الفن الهولنديين مثل فرمير ورمبرانت، ولكن مثالية الفنانين الواقعيين أمثال غوستاف كوربيه وهونوري دومييه وجان فرانسوا مييه حاضرة في أعماله الأولى «سرادق الفلور على سبيل المثال»، مثلما يحضر أثر الرسامين الأميركان الأوائل مثل توماس إيكنس وونسلو هومر على رأي ألان كويف مؤرخ الفن، الذي يعتبر هوبر وريثاً للتقليد الواقعي الأميركي.
يقوم فن هوبر على التقاط تفاصيل الحياة اليومية للطبقات المتوسطة، والوقوف عند مظاهر التحول في المجتمع الأمريكي المعاصر، مع نزوع إلى استعادة ما أزالته المدنية أو ما توشك أن تزيله، في نوع من الحنين إلى الماضي، حيث تبدو أعماله في طورها الأميركي الأول أشبه بإعادة تشكيل أشياء وذكريات ولّت، في مشهدية تطغى عليها الألوان الداكنة إلى جانب فضاء يخرقه الضوء، أكثر من كونها نقلا أمينا لواقع ما. وعادة ما يغيب البشر عن لوحاته، فيبدو المشهد خالياً أو مهجوراً، وتبدو الخطوط فيه كحدّ فاصل بين الحضارة والطبيعة كما في «طريق في ولاية المين» أو «بيت على حافة سكة حديد» . أما في طورها الثاني، أي بداية من 1930.
فقد اتجهت نحو التقاط مظاهر الحياة الحضرية، خصوصاً في مدينة نيو يورك، حيث مرسمه الذي تشاطره فيه زوجته جوزيفين نيفيسون الرسامة هي أيضاً، من مسارح وفنادق ومطاعم وحانات ومتاجر وقاعات سينما، وهي أعمال تصور الحياة العصرية للطبقة الوسطى في المجتمع الأميركي، خصوصاً قطاع الخدمات، قبل أن تنعطف على تصوير ملامح الحياة الأميركية American way of life كما تتجلى بتفاصيلها الواقعية: محطات بنزين، أثاث عصري، لافتات إشهارية… وبشخصيات نمطية مغمورة لا تعكس ملامحها أي تعبير، وكأنها ديكور هي أيضا داخل «طبيعة ميتة». وخير مثال على ذلك لوحة «المسرنمون» الشهيرة التي استوحاها من قصة «القتلة» لإرنست هيمنغواي، حيث رجلان وامرأة يلوحون ليلاً خلف واجهة بلورية لإحدى الحانات جالسين على انفراد إلى مبسط السلع «الكونتوار»، وقد انشغل كل واحد منهم بأفكاره.
عندما يسأل هوبر عما يريد رسمه، عادة ما يجيب بأنه يرسم الضوء والشمس، وما عدا ذلك فلوحاته تعبير عن نفسه هو. فهي مشحونة بالسكون والعزلة والتوتر والكآبة، تبدو فيها الشخوص جامدة، متحجرة، شاخصة، سامدة كأنها غائبة عما حولها، أو عن الوجود كله، مثلما يبدو العالم الداخلي منفصلاً عن العالم الخارجي بباب أو نافذة أو مفارقة ضوئية. ولذلك عدّه النقاد رسام العزلة والاغتراب والكآبة.
هذا المناخ القابض وجد فيه بعض المخرجين السينمائيين ضالتهم، فقد استأنسوا بلوحات هوبر في بناء ديكور أفلامهم، وزادوا في ذيوع صيته.