أثنوغرافيا عربية
في أروقة الثقافة العربية يحضر الكاتب شمس الدين الكيلاني ليعكس صورة ذاك الآخر، وتحديداً شعوب الشرق الأقصى (الصين والهند وجيرانهما) فمن المعروف أن العرب احتكوا مبكراً بتلك الشعوب براً وبحراً من طريق التجارة والترحال، ومناوشات الحدود والاقتباسات الثقافية المتبادلة، فدونوا معارفهم وتخيلاتهم عنهم في مصنفاتهم الأدبية، والفلسفية، والتاريخية والجغرافية، وفي أدب الرحلات الذي شكّل النافذة الأكثر أهمية في التعرف على تلك البلاد واحتل هو والتأليف الجغرافي دوراً مركزياً في إنتاج الصورة العربية عن الهند والصين وجيرانهما، وشكلا مرآة عكست موقف الثقافة تجاه العالم برمته ماكسر الصورة النمطية والمحافظة نحو الآخر كما عكستها الجغرافيا الفلكية الرياضية المتأثرة ببطليموس عن طريق التجربة والمشاهدة المباشرة.
فضلاً عن تعرف العرب المسلمين على ثقافة الفرس والصين واطلاعهم على علوم اليونان التي لم تتطلع عليها أوروبا حتى عصر النهضة.
سفارات وبعثات
ولم تقتصر مسالك التعرف والتعارف والاتصال بين العرب والشرق الأقصى على المنافع التجارية، فقد أدى تدفق الهجرات اإلى تبادل خلفاء وسلاطين المسلمين الرسائل والهدايا والفراء مع ملوك الهند والصين، وامتزجت السفارة بوظيفة التواصل الثقافي، إضافة إلى حمولاتها السياسية والاقتصادية.
فقد شهد عام 651م ، كما يشير بعض المؤلفين الروس إرسال أول سفارة عربية بحراً محملاً بالهدايا النفيسة إلى مقر الإمبراطور الصيني، وبلغ عدد السفارات التي قصدت الصين بين عامي 960ه -1280م عشرين سفارة، فضلاً عن البعثات، ويذهب الباحثون إلى أن البعثة الأولى إلى الصين أرسلها الخليفة عثمان في 31ه -651م، وحسب المدونات فإن 37 بعثة عربية وصلت إلى الصين في عهد «تانك».
ومن مسارات الاتصالات أيضاً كانت الترجمة والاقتباس التي عززت الحوار بين الحضارة العربية الإسلامية، وحضارات الشرق الأقصى والتي بلغت أوجهها في عصر الخليفة المأمون الذي رعى الكثير من المترجمين من الشرق، فنهلوا على نطاق واسع من الأدب اليوناني، ومن اللغة الفهلوية على نطاق أضيق والتي كانت أداة اتصال بين الهند والبحر الأبيض المتوسط، واختصرت حركة النقل على المؤلفات العلمية والفلسفة، ونقل العرب عن الفهلوية والهندية في جملة ما نقلوا من الآثار العملية، القصص والحكايات والأمثال.
بلاد الواق واق
«بلاد الواق واق» هكذا تداول المصنفون العرب متخيلاً عن عالم نسبوه لعبد الله بن عمر بن العاص، «فرأس الدنيا الصين وخلفها أمة يقال لها واق واق، ووراءها من الأمم مالا يحصيه إلا الله»..
كما تداولوا تصوراً يقسم الأرض إلى أربعة أقسام أوقارات وضعوا الهند والصين في إقليم واحد مع بلاد العرب الجنوبية، وقسموا المعمورة إلى سبعة أقاليم نسبوا كلاً منها إلى أمة كبرى، وخصوا لكل من الهند والصين بأقليم.
إذاً «الجغرافية» ساهمت في تشكيل صورة العرب عن العالم، وعن موقع الصين والهند فيه ولاسيما في القرن التاسع الميلادي الذي كان بحق عصر انبثاق العلوم الجغرافية ومصنفاتها الكبرى، وأنماطها المتعددة الفلكية والوصفية، فضلاً عن التقسيم السلالي الذي رسمه بعض الجغرافيين العرب ومؤرخيهم للشعوب، ثم تحديد مكانتهم من تأثير مواقع النجوم والأفلاك، ولم يخل التقسيم السلالي من حمولات تفاضلية بين السلالات الكبرى، فوضع ذرية سام في وسط الدنيا له دلالاته، كما أن وضع أبناءحام ومنهم الهند في الغرب والجنوب له دلالاته الخاصة أيضاً، وكذلك أولاد يافث وموقعهم في الشرق والشمال ومن بينهم الصين والترك ويأجوج ومأجوج.
ويشير الكيلاني إلى أن كل هذه التقسيمات تتعارض مع الأخلاق الإسلامية والقيم التي شكلت قلب الثقافة العربية ووعيها الحاكم، كما أنها تتعارض مع آراء كثيرمن الباحثين وفي مقدمتهم ابن خلدون، الذي وضع البيئة والعمران عاملين حاسمين للحكم على إنجازات الأمم الحضارية.
جيران البر والبحر
ويخصص الكاتب فصلي كتابه (الرابع والخامس) للحديث عن الشعب الصيني والهندي وبيئتهما الثقافية والحضارية كما تخيلها العرب بتفصيل يجذب القارئ لأن المؤلفين لم يتركوا شاردة أو واردةإلا وتحدثوا عنها في تلك البلاد بدءاً من التجارة وصولاً إلى الأصول السلالية ثم مظاهر تفوق الصين في العمران ونظام السلطة والمدينة والمنزل، وأنماط السلوك الاجتماعي والعادات والتقاليد، حتى أنهم سلطوا الأضواء على الطقوس الدينية المرافقة للموت والدفن، كما أنهم لامسوا المناخ الديني وروح الاتجاهات العامة للديانات لديهم، حيث عرض المسعودي مذاهبهم الدينية المختلفة قارن بعضها بديانة العصر الجاهلي، مؤكداً أن ملوك الصين رغم اختلافهم في مجال الشرائع والديانات إلا أن ذلك لم يؤثر على رصانة العقل الصيني، وبذلك يكون مؤرخونا ومصنفونا قد قدموا دراسة أثنوغرافية كافية ووافية عن تلك المدن والشعوب باحتكاكهم المباشر معهم.