تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


(لعبة لغة) تنتهي إلى نصوص إبداعية جادة

كتب
الأربعاء 16-2-2011م
مفيد عيسى أحمد

ما علاقة الفن باللعب..؟ إذا كان اللعب من نشاطات الحياة التي يمارسها الإنسان بدنياً وذهنياً في فضاء من الحرية والمبادرة الشخصية وهو ذو تأثير سيكولوجي مهم، فهل يمكننا تصنيف الفن بشكل عام والأدب خاصةً على أنه ضرب من اللعب...؟

لقد عمم جورج جادامر، الفيلسوف الألماني، هذه العلاقة على مجمل النشاط الثقافي فقال: لا يمكن التفكير في الثقافة الإنسانية من دون عنصر اللعب، وخصص الفنّ الذي اعتبر أنه في أساسه لعب وقد تحول إلى عمل فنّي.‏

ليس كل اللعب مجانياً فهو في بعض أشكاله يحضن بذوراُ إبداعية تصل إلى تلمس الجمال وتخليقه ولو في النادر منه، وهو ما يشترك به مع الفن، وإذا كانت إحدى غايات اللعب المتعة، ففي الأدب ضرب من اللعب واللغة أداته، كما أن لعبة التشكيل هي الخط واللون ولعبة السينما هي الصورة، واللعب هنا لا يعني قطعاً العبث، أي ليس لهواً.‏

(لعبة لغة) هو عنوان المجموعة القصصية الأخيرة الصادرة عن دار عروة عام 2010، للكاتب أنيس إبراهيم، وهو عنوان يثير التساؤل التالي: ماذا لو كتبنا نصاً أو كتاباُ بلا عنوان..؟ فإذا كان العنوان مفتاح التلقي، وعتبة النص، فهل نستطيع ولوج النص دونه..؟ أم أن العنوان لا يعدو اسماً يعمل كدلالة فقط، دون أن تصبغ أي قيمة على مدلولها.‏

التأثير في حده البسيط والذي لا يمكن انكاره للعنوان هو أنه إما أن يرافقك حائماً في ذهنك أثناء قراءة النص أو النصوص التي يفتتحها أو يتوارى غائماً بفعل مجافاته لما تقرأ.‏

تبدأ اللعبة اللغوية في المجموعة من القصة الأولى (الحبار) حيث يقدم لها بشكل لغوي يهدف إلى تعريف لفظة (الحبار) اصطلاحاً كما هي في العرف، وهي ما يؤسس عليها نصه، الذي يخلع عنه شكل القصة القصيرة التقليدية.‏

ينسحب هذا على نصوص المجموعة التي تحاول التخلص من وصاية القص التقليدي باعتمادها بنية لا تقوم على سرد نمطي، فهي لا تمضي في سيرورة درامية، بعضها يتوزع على مقاطع يتنامى معها الحدث، تتداخل معها مقاطع ترفد موضوع القصة بمعلومات أو بيانات مأخوذة من مصادر أخرى بعضها موثق، كما في (الحبار، القطة، لعبة لغة) وذلك في عملية تناص أغنت هذه القصص ووسعت أفقها، وبعضها غير موثق.‏

وأخرى قوامها سرد أتى كالدفق، انبثق مع أول كلمة واستمر إلى آخرها، كما في قصص (الحفرة، حاجة حيوية, مأساة كلب، هو الغروب) حيث لم يقطعها حوار أو استدراك أو تناص، فالنص يتداعى بسببية يرسمها الحدث لينتهي مع انقطاعها.‏

ثمة تلاعب حقيقي باللغة في قصة (لعبة لغة) وهو مقصود ومتعمد، فتغيير تراتبية الألفاظ في الوحدات اللغوية، من جملة وأكثر، لا يغير المضمون والمعنى لكنه يداور في توصيله، وهو ما أراده الكاتب بشكل يقترب من السخرية (قالوا: جاء تأريخ شيخ الكتاب للحدث في ثلاثة فصول، وقالوا: في ثلاثة فصول جاء، وقالوا: ثلاثة فصول جاء فيها، وقال: أهلي، أبنائي، أو عشيرتي أهلي أبنائي، أو... أو.. نحن لا يهمنا كيف قالوا) هو أمر اعتدناه في بعض موروثاتنا، حيث اللغة تتلاعب بالحدث وتقلب التعبير وتخلخل تأثيره، وهي هنا ليست لعبة بريئة، فهي كما في بعض أدبياتنا التي ترصد أحداثاً تاريخية بمنظور لغوي من زوايا مختلفة تغير في أولياته، وقد أحسن الكاتب في اختيار عنوان هذه القصة عنواناً للمجموعة، فهي ذات شكل وسرد مبتكر وجميل، مفعمة بالحيوية والجمالية.‏

تأخذ لعبة اللغة شكلاً آخر في قصة (كل الدهان أحمر) حيث تتكرر اللفظة، الصفة أو الفعل، لتأكيد وتركيز ما يريد إيصاله ولتعميق الحالة الشعورية التي يريد وضع المتلقي فيها (أنا يؤلمنى هنا. هذا الرأس الذي لا يفتأ يطن. يطن، يدور ويدور) هذا على صعيد الفعل أما على صعيد الصفة (لا يؤلمني هذا البياض، بياض الجدران، بياض السقف، بياض ستارات النوافذ، بياض الأغطية، بياض الممرضات، البياض، البياض)‏

مواضيع القصص مختلفة وهي تعكس هواجس الكاتب، فقصة (الحبار) يتناوب فيها العام والخاص وكأنهما قطبا قضية واحدة، هي قضية الظلم والاغتصاب، والعام هنا، هو السياسي المتجسد بظلم المحتل واغتصابه والخاص هو تلك الفئة المستغلة التي تتعسف من هو أضعف منها.‏

ثمة قصص ذات بعد ومضمون إنساني أساسه الفجيعة أو الخيبة كقصتي (نجوى، الغروب) أما قصة (ابن ذنون حكاية في ثلاثة فصول) فهي تتناول سيرورة الحياة وتحولات المجتمع من مجتمع تراحمي بقيمه الأخلاقية إلى استهلاكي مصلحي مع ما يرافق ذلك من انحسار للنزعة الانسانية والنفحة الروحية، وابن ذنون في القصة ليس شخصاً فقط بل هو رمز يندحر ويندحر حتى يتلاشى. المجموعة نزوع ناجح لكتابة مختلفة شكلاً باعتماد الكاتب لبناء مغاير للقص التقليدي، ومضموناً بجديتها ومواضيعها الساخنة التي تنبثق من الراهن، وهي مغايرة عما ألفناه في مجموعات الكاتب السابقة، شكلاً ومضموناً، مع العلم أنها كانت مجموعات جميلة، واختلاف هذه المجموعة لا يقلل من قيمتها بل يضفي عليها جماليتها الخاصة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية