في الواقع هنا تبرز لعبة الأدب الأسلوبية التي تستطيع انتشاله من الوقوع في التوثيقية, وتلك مهمة المؤرخ «لا الأديب الذي يفترض به من خلال لغة الإقناع التي يجب الإمساك بخيوط نسيجها جيدا أن يقنعنا بأن ما يجري أمامنا هو الواقع وبأن أبطاله من لحم ودم ونماذجه المطروحة كائنات تتعايش معنا وتتجوّل بيننا , هكذا يكتسب العمل الفني استقلاله وحياديته التي تكاد تكون غير مرئية, بالإضافة إلى شرط آخر مهم هو شرط التشويق والسرد الرشيق للحدث الذي يهبه شرف متابعة القراءة حتى النهاية من قبل القارئ المتلّهف لملاحقة تطور مايجري أمامه 0 لكن جسامة الحدث قد تغفر للكاتب أحيانا عدم الحيادية فالقضية قضية وجود او لا وجود بحالة كحالة « أفغانستان «لدى الكاتب /خالد حسيني/ ابن هذا التاريخ الدامي فهو لن يستطيع الخروج من إرثه ومخزونه الثقافي العام وما يجري في بلده من تدمير للذاكرة والتاريخ لذلك نراه يتقمص ككاتب إحدى الشخصيات الأساسية في العمل ساردا من خلالها كل ما يمكن ان تتعرض له الذات المثقفة من خراب على الصعيد الكياني /روحا وجسدا / عبر تجليات عديدة من / الندم والتبكيت وجلد الذات / فما حدث في أفغانستان كان فيه الكثير من العبث المنظم بمصيرها وببنيتها التاريخية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية حتى تحولت تربة المجتمع الأفغاني إلى تربة رخوة قابلة لكل أنواع الوطء من / السوفييت إلى المجاهدين إلى الطالبان الى الأميركان والوجود الأطلسي بكامل ثقله الى الحكم الوطني الرازح تحت الوصاية / لذلك بدا هذا الشعب لا يجيد سوى طريقة واحدة حين التعبير عن نفسه وهي الصراخ يقول الكاتب: /كان كل من في السيارة يتكلم بصوت عال وفي الوقت نفسه يصرخون هذه هي الطريقة التي يتحدث بها الأفغان/
رواية /عدّاء الطائرة الورقية / استطاعت عكس كل هذه المشهدية الدرامية التي يشهدها التاريخ الأفغاني الحديث عبر شخصيتين محوريتين طفوليتين نمتا في ظل هذا الواقع المخيف بتنويعاته الطائفية والاثنية ونسيجه الاجتماعي الممزق فذاكرتهما بما اختزنتاه بشكل/ واع أو غير واع/ من الأحداث والتفاصيل الكثيرة عكستا صورتين متناقضتين ومتكاملتين بنفس الوقت للواقع مما ساهم باتساع فضاءات النص وتنوع عوالمه ( جبن وتهاون إحداهما وإخلاص ووفاء الأخرى ) واسقاط كل ذلك على المنبت الاجتماعي لكل منهما 0
ومن خلال تطور الأحداث وتعقدها كيف ظلت كلتاهما مخلصة ووفية لمبادئها سواء السلبية أو الايجابية لكن الضريبة كانت مرة وقاسية والمصائر فجائعية مما جعل الكاتب فيما بعد يلجأ إلى التكفير عن جين شخصيته وتخاذلها المشين عبر محاولة انقاذ ما يمكن بواسطة حل أخلاقي اعتقده كافيا لتبرير عجزها حين حفّز فيها بقايا بطولية مضمرة كادت تظل كامنة لولا تعرضها لحادث شخصي هو فعل الخيانة من قبل الأب والذي عوّض عنه بأفعال الخير الكثيرة لكن دون قدرة على كسر الأعراف وتبني ثمرة خيانته أمام الملأ « ولده الآخر الخادم وقد ورث سليل الخيانة الذي تقمصه الكاتب هذه الصفة ورأى كم هو يشبه أباه فعمد إلى محاولة إصلاح خطئه البنيوي بنوع من أنواع الندم المتأخر عبر الدفاع عن ابن أخيه لكن الأوان كان قد فات والتاريخ لن يرجع إلى الوراء وكأني بالكاتب يوحي بأن الحفر في الأركولوجيا التاريخية للأعراف الأفغانية يكاد يكون مستحيلاً 0
وقد ظل دور المرأة سطحيا وهامشيا عبر تصاعد خيوط الأحداث الدرامية في الرواية فهي حين تمردت وهربت مع عشيقها ك (ثريا) او خانت زوجها العقيم وذهبت مع فرقة موسيقية كأم أخيه /الخادم / تعود ثانية إلى مكانها الأول مكفّرة عن ذنوبها ( ثريا تعود الى بيت والدها – والأم تعود إلى ابنها ثمرة الخيانة وتموت هناك )
يقول الكاتب ( كل امراة تريد زوجا حتى وان قتل الأغنية داخلها / ولم يهتم الكاتب بماضي زوجته كحالة أخرى من حالات الندم وجلد الذات والتعويض النفسي وهو الذي مارس شتى أنواع التعسّف تجاه أخيه يقول : / لكني اعتقد ان الجزء الأكبر من السبب أنني لم اهتم بماضي ثريّا , إنني امتلك نفسي واعلم كل شيء عن الندم / ثم يأتي سبب غيبي آخر ليحرمه من الإنجاب دون وضوح مسوغ علمي لذلك كتكملة لرؤية الكاتب الأخلاقية لما يجري فكأن حالة خصاء نفسي قد أصابته على المستوى الوجودي الفردي والكياني ككل يقول : / كان سبب ذلك ربما سبباً شخصياً قرر منعي من الأبوّة بسبب ما قمت به , ربما كان هذا عقابي /
واستمرارا في الهروب من مشكلات الواقع العميقة رأت الضحية « الكاتب» حلها بالارتماء في أحضان الجلاد نفسه « أميركا» وكأن الشخصية المازوخية استمرأت فعل /السادي/ بها وتماهت معه فبدت أميركا واجهة للديمقراطية تفتح أحضانها كأم رؤوم لأمثاله من الفارين من ذاكرتهم يقول: / أميركا كانت مختلفة , كانت نهرا لا يتوقف , لا يهتم بالماضي , استطيع الخوض في هذا النهر وأترك ذنوبي تغرق في القاع أن لا لشيء إلا هذا عشقت أميركا /أيكون ذلك نتيجة استقبالها لأعماله الروائية وحصده الجوائز الأدبية العديدة فيها يا ترى , أم أن ثمة أيديولوجيا أبعد من ذلك تتلبسه ؟ أما الشخصيات الأخرى مع تصاعد الأحداث وتشابك الخيوط والأزمنة الاسترجاعية والمتسلسلة أفقياً فغالباً ما تراوحت بين عجز وهروب من مصيرها عبر إمكاناتها المادية أو ضائعة حصدتها الأحداث بطريقة او بأخرى كما حدث للابن الخادم ووالده الاسمي أو منتظرة اقتسام الكعكة مع المنتصر كشخصية الجنرال « تاهيري» يقول الكاتب / في وسط هذا كله كانت افغانستان والجنرال « تاهيري « الذي استيقظت آماله بعد خروج السوفييت عاد إلى تنظيف ساعة جيبه/
وبالمحصلة تبقى أفغانستان كبعد جيو سياسي مهم استراتيجيا أشبه بكرة تتقاذفها أيدي الدول الكبرى كيفما شاءت فإن تركت لخصوصيتها /المنهوبة والمخرَّبة / عاث فيها الطالبان جهلا واغرقوها في الدموية والفوضى وان تركت لمحتليها امضوا فيها تمزيقا وسرقة للذاكرة تحت حجج مختلفة ولايجد الكاتب أمامه سوى السخرية المرة من هذا التاريخ المحكوم بالقدرية والأصولية والشهوة للنهب والقتل يقول : / ضحكت من النكتة وكيف أن الأفغان لم يتغيروا , شنت الحروب , اخترع الانترنت , ومشى روبوت على سطح المريخ وأفغانستان مازالت تخبر نكت المولى نصر الدين /
وفي النهاية يبقى السارد الأكبر « الكاتب « في برجه الأميركي ينظر بحيادية غريبة يتخللها بعض التحسر على الواقع يقول : فكّرت في سطر قرأته في مكان ما , أو ربما سمعت أحدهم يقول : « هناك كثير من الأطفال في أفغانستان , لكن قليلا من الطفولة /
ولكننا مع ذلك نستطيع أن نرى إدانة ما للطبقة الغنية في أفغانستان والتي همها الأساسي الهروب تاركة البلد يواجه مصيره لوحده ولعل الأقليات الفقيرة والمتضررة التي ضحت وبقيتِ مخلصة لجذورها رغم محاولة الاستئصال الدائم هي فقط من بقي يحلم بوطن جميل رغم كل شيء يقول الكاتب : على لسان /حسان / الشخصية الطفولية المحورية الأخرى
/احلم أن ابني سيكبر ويصبح شخصا جيدا , حرا أو هاما , احلم أن ورود « اللاّولا « ستزهر في شوارع كابول ثانية وموسيقا الربابة ستملأ البيوت والطائرات الورقية ستطير في السماء/
عداء الطائرة الورقية - الكاتب : خالد حسيني - ترجمة منار فياض - دار دال للنشر دمشق 2010