شعرت وكأنني قد استيقظت من غيبوبة تجاوزت ثلاثين عاماً، وحتى اللحظة التي وصل فيها إلى التشخيص، شعر وكأنه شخص آخر لأنه وجد الإجابة عن كثير من الأسئلة، وأن حياته حولت نحو الطريق الصحيح، ولكنه في الوقت ذاته كان يشعر بالغضب لأنه لم يعرف بمرضه إلا متأخراً، وقد بدأ الآن بإعادة بناء نفسه وشعر وكأنه عاش من جديد.
أما (ر-ت) فحالته تصيب واحداً من مليون فقط، وهو كان طفلاً طبيعياً سليماً ومعافى، كما أن قدرته على التواصل كانت جيدة أيضاً خلال ال 14 شهراً الأولى من حياته، ولكن بعد أخذه اللقاح الثلاثي (الحصبة والنكاف والحميراء)، أصيب بمرض شديد مع درجة حرارة مرتفعة ودخل في سبات 24 ساعة بعدها أصبح يعاني من النعاس، وكان غير متجاوب، ولم يتعرف على والديه أو أخوته وبعد أن شفي بدنياً صار أكثر سلبية، وبدأ يجلس ويلعب منفرداً، ولم يعد يتكلم أو يتواصل معهم، تم تشخيص المرض لديه، بالطيف التوحدي وذلك قبل دخوله المدرسة، فذهب إلى مدارس متخصصة خلال طفولته، تحسن تحسناً ملموساً بمساعدة عائلته ومعالجي الكلام واللغة والمعلمين وغيرهم.
وقد اكتسب مهارات في تكنولوجيا المعلومات في المعهد الذي يتعلم فيه،وصار يقضي الكثير من وقته على الكمبيوتر، لديه الآن أصدقاء كثر، لكنه لايزال متوحداً بصورة طفيفة إلى متوسطة، ويعيش في بيت والديه ومن غير المرجح أنه سوف يستطيع تحقيق الاستقلالية التامة، واللافت أن لدى أفراد عائلته ومن بينهم كلا الوالدين بعض السمات السلوكية التوحدية، كالتأخر في الكلام، أو التحفظ الاجتماعي الواضح، أوتفضيل الروتين وكره التغيرات، ولكنها لم تمنع أي واحد منهم أن يعيش حياة كاملة وناجحة.
إشارة توحدية
الحالات السابقة وغيرها تنبئ أوتشير إلى وجود مرض (الطيف التوحدي) والذي يمكن أن يتأخر الأهل في اكتشافه لدى أحد أبنائهم، لتأتي الفحوص التشخيصية وتؤكد أن طفلك يعاني من التوحد، والأمر الطبيعي أن يبحث الوالدان لدى معرفتهما بمرض ولدهما صغيراً كان أم كبيراً عن إجابات واضحة ووافية تتعلق بالمرض وكيفية حدوثه ومن ثم معالجته.
المرض الذي رافق البشرية باستمرار لم يعرف كحالة طبية مرضية مستقلة إلا في أواسط القرن العشرين، لأن المصابين بالتوحد شديد الدرجة، كانوا يحشرون مع البلهاء والمتخلفين عقلياً، أما المصابون بدرجة خفيفة منهم أدلاء الذين يوصفون بأنهم يعانون من متلازمة (أسبرغر) وينعتون بالانطواء الاجتماعي وغرابة الأطوار.
من الطفولة إلى الكهولة
يصبح الأطفال المصابون باضطرابات الطيف التوحدي أقل انعزالاً وانسحاباً على مر الزمن ويتحسن التواصل لديهم بالعين، أما الأطفال الذين لايرغبون أن يُمسك بهم أحد، ولايكافئون من يرعاهم بالنظرات أو الابتسامات أو غيرها من السلوكيات الترحيبية، فيصبحون لاحقاً مرتبطين بشكل وثيق مع من يرعاهم ويهتم بهم ويبدون ذلك في سلوكهم.
وقد يصبح من الممكن تعليم سلوكيات المشاركة والتي تكون غائبة غالباً في مرحلة الرضاعة والطفولة المبكرة، أو انها قد تتطور تلقائياً في مرحلة الطفولة المتوسطة، ويمكن أيضاً اكتساب مقدرة قراءة العقل فيما لو وصلت المقدرة اللغوية إلى مستوى معين، وقد يسعى الأطفال الصغار الذين لم يكونوا يميلون سابقاً للتأثر مع أقرانهم إلى اتخاذ صداقات في مرحلة المراهقة أو إقامة علاقات جنسية مع مرحلة البلوغ.
وقائع وأرقام
ارتفعت تقديرات انتشار الاضطرابات بالطيف التوحدي منذ الثمانينات، وهي مستمرة في الارتفاع، وهناك أسباب وراء الارتفاع الظاهري، وليس الفعلي في أرقام الانتشار، وتشمل هذه الأسباب حقيقة التوسع في التعريف الذي يشخص المرض سريرياً، وزيادة الوعي العام باضطراباته، وتوافر الخدمات التشخيصية والتنبه بشكل أفضل إلى احتمال تشارك اضطراب الطيف التوحدي مع مشاكل تطورية أخرى.
كل ماسبق أوردته الأستاذة الباحثة في علم النفس المعاصر (جيل باوتشر) في كتاب تحت عنوان (الطيف التوحدي) «الذاتوية» خصائص وأسباب وقضايا تطبيقية، وهو صادر عن المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف بدمشق ضمن سلسلة الكتاب الجامعي الطبي، ترجمه إلى العربية فريق عمل بذل جهداً كبيراًَ في إيجاد مقابلات عربية للكثير من المصطلحات الجديدة في هذا المجال العلمي الجديد- وهذا كما بيّن مدير المركز- يضيف عبئاً إلى عبء الترجمة المعتاد، ليقدموا مرجعاً علمياً للباحثين والأساتذة والطلاب في أكثر من تخصص.
يأتي هذا الإصدار ضمن سعي منظمة الصحة العالمية إلى أن يبلغ المجتمع كله أرفع مستوى صحي، متخذة- حسب المدير الإقليمي لها- د. حسن عبد الرزاق الجزائري إلى ذلك سبيلاً في إشراك جميع أعضاء المجتمع في حفظ صحتهم وتعزيزها من خلال إدماج الفئات التي تعاني من التهميش والاستضعاف ويتميز الكتاب باستعراض شمولي لهذا الاضطراب، جمعت فيه المؤلفة بين المعارف النظرية والخبرة العملية الميدانية، ساعية إلى تقديم أحدث ماتوصل إليه الطب والعلم بشأن هذه المرض، وقد عرضت لكثير من الحالات والنماذج تم ذكرها في بداية عرض الكتاب، وقدمت أرقاماً وإحصائيات لتوزعه وانتشاره وقامت بتقييم المرض وتشخيصه والتحري عنه والمدخلات التي من شأنها أن تعود بالنفع على المصابين ووسائل رعايتهم.