على الرغم من امتداد المدينة إليه بتعقيداتها حيناً وبتطور سبل الحياة والمرافق فيها معظم الأحيان، لكن هناك ميزة قد يفقد بفقدها الريف الكثير من خواصه وهي الفوضى المقبولة والمحببة، فهل نستمر في محاولة (تدجين) هذه الفوضى أم نتركها على راحتها تحلّق دون أن تزعج وتسرّح جدائلها دون أن تتعدى على الذوق العام؟
في المدن هناك ساعة محددة لفتح المحال التجارية ولإغلاقها حسب تجارة هذا المحل وحسب موقعه وفق ضابطة بلدية معينة، فهل نستطيع أن ننقل هذا القانون إلى الريف؟
إذا ما أرادت البلدية تحديد السابعة والنصف صباحاً على سبيل المثال موعداً لتفتح المحال التجارية في الريف أبوابها فهل تعلم عزيزي القارئ أنه حينها سيذهب أكثر من ثلاثة أرباع المزارعين إلى حقولهم دون أن يتمكنوا من شراء أي حاجة وقد يجلس صاحبو هذه المحال إلى حين عودة المزارعين مساء إلى منازلهم.
إذا ما أرادت البلديات أيضاً تجميع محال الألبسة في حي ومحلات الحبوب في حي آخر والمطاعم في حي ثالث وهكذا، فهل تعتقد أن ابن الريف قادر على التأقلم مع هذه الحالة وهو الذي اعتاد أن يشتري من محل واحد طعامه ومؤونته وألبسته...الخ؟
اتجهت معظم البلديات في محافظة طرطوس إلى تشييد أرصفة جميلة على مداخل القرى الكبيرة والبلدات وهذا أمر جيد ولكن (لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان) فالأرصفة على أهميتها وجماليتها إلا أنها أحدثت مشكلة لا يستطيع أحد أن يتنكّر لها، حيث أغلقت مداخل الكثير من المنازل ومنعت سيارات وجرارات أصحاب هذه المنازل من الوصول إليها بسبب ارتفاعها (40 سم) وبقي السؤال حتى الآن معلقاً وبرسم الجهات المعنية: أين ستقف هذه الآليات وهل من العدل ألا تصل الآلية وخاصة الزراعية منها إلى بيت صاحبها، وهو الذي يحتاجها يومياً لنقل محصوله وأدوات عمله من البيت إلى الحقل وبالعكس!
هذه القضية حضرت بقوة خلال الجولات التي قام بها السيد محافظ طرطوس على بلديات المحافظة وكان اقتراحه بتخصيص مكان لتجمّع هذه الآليات في كل بلدة ولكن هذا الاقتراح كما أسلفنا لا يلبّي، فإن قبلنا بوقوف السيارات السياحية في الشارع مقابل كل بيت فمن غير المقبول وقوف الآليات الزراعية على الشوارع العامة وبالوقت نفسه فإن الحاجة إليها تتعدى وقوفها في الشارع.
بعض المواطنين احتال على هذه الإشكالية فوضع مساند حديدية تسمح لسياراتهم بتسلّق الرصيف إلى محالهم وبيوتهم، وبعضهم الآخر صنع هذه المساند من الإسمنت رغم التعليمات المشددة للبلديات بإزالتها، وبعضهم يستغلّ أقرب فتحة ويسير على الرصيف إلى أن يصل إلى بيته أما الحلول الناجعة فهي مازالت غائبة!
وإذا ما أرادت البلديات تجميع الحرف المتداولة في الريف في منطقة حرفية فهل تعلم أنها ستقطع ب (رزقة) الكثير من الناس الذين خصصوا جزءاً من منازلهم وما أمامها من مساحة لمزاولة هذه المهنة أو تلك لأنهم لن يكونوا قادرين على شراء محل في المنطقة الحرفية!؟
ربما المسألة الأخيرة هي ما دفعتني إلى طرح هذا الموضوع، حيث تعتزم بعض البلديات الريفية في محافظة طرطوس تخصيص منطقة حرفية يتمّ فيها تجميع أماكن مزاولة جميع الحرف الموجودة في نطاق عملها، وقد خصصت بعض البلديات الأرض اللازمة لهذه المنطقة الحرفية وستكون أمراً واقعاً خلال فترة قريبة...
ربما يكون ما تقدّم أمثلة بسيطة ولكنها تدخل في تفاصيل مهمة من حياة أبناء الريف الذين اعتادوا أن ينطلقوا دون قيود كجدول ماء يرسم لنفسه المسار الأكثر راحة له دون أن يجد من يقول له لا تمرّ من هنا، ومن الأهمية بمكان أن يتمّ التعامل مع هذه التفاصيل وفق ما يناسب ابن الريف وليس بالضرورة وفق مايناسب التطور العمراني المدني..
ابن الريف لا يعود من حقله إلا ومعه كمية كبيرة من إنتاجه الزراعي فيوزّع البندورة على من لا يزرع هذا المحصول ويوزع الخيار على آخرين، ومن غير الواقع أن يحمل كل هذا على ظهره وإلا لماذا اشترى جراراً أو سيارة زراعية؟ وابن الريف يخزّن السماد والبذار في بيته وعندما يحين موعد الزراعة ليس معقولاً أن يحملها على ظهره لمسافة قد تزيد على مئة متر ليعبر رصيفاً شكّل عائقاً بينه وبين الوصول إلى داره، وإن كان هذا الرصيف جمالياً وضرورياً.