تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الوَصِيَّةْ

الملحق الثقافي
12-2-2013م
أحمد محمود حسن-بعض الَّذينَ أرّخوا لرجالِ حربِ الاستقلالِ ذكروا جدي بالاسم، خصّصوا له صفحةً في كتابٍ ووضعوا له صورةً في أعلى الصفحة.

أنا أعرفُ جدّي جيداً، حين توفي كنتُ في العشرينَ منْ عمري، كنا نسكنُ في بيتٍ واحد. تمعّنتُ بالصورةِ قبلَ أن أقرأ ما كُتِبَ عن صاحبها.‏

هذا الرّجلُ لا يُشبه جدّي لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، هذا أمرَد، وجدّي كان كثيفَ شعرِ الّلحية. هذا الرجلُ صاحبُ وجهٍ نحيل، وجدّي كان ممتلئَ الوجه، عينا رجُلِ الصورة ضيِّقتانِ كثقوبِ مزمارِ القصب، وعينا جدّي واسعتان كغابتي سنديان.‏

قلتُ في نفسي: ربما يكونُ قد حدثَ خطأٌ ما أثناءَ تنسيقِ الكتابِ قبلَ الطباعة، فوضعوا صورةَ جدّي خطأً على صفحةٍ أخرى، وصورةَ صاحبِ الصفحةِ الأخرى على صفحةِ جدّي. لا بأس، ولكن، لأقرأ ماذا كتبوا عنهُ، وبدأتُ القراءة.‏

ما هذا الكلام؟! ما هذه السخافات؟! جدّي لم يكن قصيرَ القامةِ، لا لم يكن قزماً كما وصفوه، أنا أعرف جدّي جيداً، كانَ طويلاً كالرِّمح، باسقاً كشجرةِ حورٍ، يا للنّذالة! يا للكذب! جدّي لم يخضِ المعركةَ الأخيرةَ فقط، هو بنفسهِ حدّثني-وجدّي لا يكذب- قالَ لي بالحرفِ الواحد: لقد خضتُ المعركةَ الأولى ضدّ الأجنبيِّ المحتل، كنا عشرةَ رجالٍ فقط، استشهدَ منا واحدٌ وجرحَ آخر، وأنا يومها اخترقَتْ رصاصةٌ قماشَ سروالي ولم تلامس جسدي، والحمدُ لله. جدَّتي أيضاً حدَّثتني عن معظمِ المعاركِ التي شاركَ فيها مع رفاقهِ المُجاهِدين، وعن المعاركِ التي كانت تقف فيها إلى جانبهِ.‏

كتبوا أيضاً أنه كانَ أُميَّاً، وَلِلعِلْمِ فقط، فإنهُ كانَ قارئاً كاتباً، وعملَ «شيخَ كُتَّابٍ» في القرية، فعلّمَ أناساً كثيرينَ القراءةَ والكتابة. لا بل وكانَ صاحبَ خطٍّ جميل، ولكي يكونَ كلامي موثَّقاً فلقد ورثْتُ عنهُ مجموعةً من الكتبِ التي نسخها بخطِّ يده، ولا أزالُ أحتفظُ بها. لكنّهم في نهايةِ الصفحة كتبوا أنهُ في المعركةِ الوحيدة التي خاضها دمّر كتيبةً مدرعةً للعدوّ بسلاحهِ الفرديِّ المتواضع وبذلكَ استحقَّ أن يكونَ بطلاً. قلتُ: لا حول ولا قوَّةَ إلاَّ بالله.‏

يوم توفي جدي لم يكن هذا الكتاب قد صدر، جدي مات بالمرض على فراشه بكل هدوء، أنا أؤكد لكم أنه لو عاش إلى يوم صدور هذا الكتاب وقرأ ما كُتِبَ عنه لكان مات بالجلطة.‏

اليوم فقط أدركتُ لماذا أوصاني.‏

عندما كنت صغيراً كان يشتري لي القضامة والراحة المحشوة بالفستق، كان طيلة السهرة يُجلسني في حجره، يمسح شعري بيده الخشنة، وعندما أنعس وهو يحكي لي حكاياته الجميلة كان ينهضُني من حجره ويرسلني مع أمي إلى السرير.‏

حين دخلتُ المدرسة وأصبحتُ أجيد القراءة والكتابة صار يُجلسني إلى جانبه ويُحضرُ لي كتاباً من كتبه الخاصَّة ويجعلني أقرأ له كل يوم حوالي نصف الساعة وأحياناً ساعة كاملة، لأنَّ بصرهُ كان قد ضعُفَ بفعل الشيخوخة.‏

عندما كبرتُ أكثر صار يأخذني معه إلى المدينة مرةً أو مرتين كل سنة، يمرُّ بي على مكتبتها الوحيدة، كان صاحب المكتبة يعرفه جيداً فيرحِّبُ به ويقدِّمُ له كأساً من الشاي، كان يقول لي وهو يشرب الشاي: اختر ما شئت من الكتب يا ولدي لأشتريها لك، لم أخرج من تلك المكتبة في يوم من الأيام بأقل من كتابين أو ثلاثة. كان يدفع ثمنها ويودِّع صاحب المكتبة ثم يُمسك بيدي ونحن نجتاز الشوارع. ويظلُّ يحدثني إلى أن نصل إلى الكراج.‏

كان يشجعني على القراءة، ويدفع لي نقوداً أحياناً مقابل قراءة كتاب معيَّن.‏

قرأ في دفترٍ لي بضعةَ أبياتٍ من الشعر كنتُ قد ألَّفتُها، كنت يومها في الصف السابع. وبعدها - وأيضاً دون أن أعلم - قرأ بعضاً مما كتبتُ من الشعر على هامش أحد كتبي المَدرسيَّة، لا أدري إن كان قد لمس ملامح موهبة شعرية عندي، فقد كان دائماً يقول لي: اقرأ كثيراً يا ولدي وسيكون لك شأنٌ في المستقبل، كل يوم كان يردِّدُ على مسمعي نفس العبارة، كان يشجعني على قراءة كتب الأدب العربي قديمِهِ وحديثهِ، مرةً قال لي: لقد سجَّلكَ المختار في قيد النفوس بعد عامين من ولادتك، سامحه الله، أنت يا ولدي أكبر من رفاق صفِّكَ بعامين ولذلك يجب أن تتفوق عليهم دراسياً.‏

في الصف التاسع كان يعاملني كشاب كبير، كان يستشيرني في بعض أموره ليعطيني الثقة بنفسي.‏

بمعاملته الخاصة لي كان يُجبر أبي وأمي على تمييزي عن أخوتي، وهو لم يكن يقصر مع أخوتي، لا أحد في البيت كان يُخالف جدي أو يعصي له أمراً، أبي لم يتدخل في يوم من الأيام بالعلاقة الخاصة بيني وبين الجد، حين كان أبي لا يعطيني مصروفاً كان جدي يمد يده إلى جيب سرواله فيُخرِج بعض الفرنكات ويقدمها لي.‏

حين كنتُ في البكالوريا مرض الجَدُّ مرضاً لا شفاء منه، بقي يصارع المرض أكثر من ثلاثة أشهر، في الأيام الأخيرة من مرضه لم يعد يستطيع الكلام فكان يكتب لنا على دفترٍ يخُصُّني ما يريد من طلبات، وما يودُّ قوله لنا، ويظل دفتري وقلمه إلى جانب سريره.‏

عدتُ إلى البيت بعد أن قدَّمتُ امتحان المادة الأخيرة في الشهادة لأجد أهل القرية متجمهرين أمام بيتنا. وقد بكيتُ يومها كثيراً على فَقْدِ جدي.‏

كانت أيام العزاء قاسية عليّ، كان من الصعب أن أوطِّنَ نفسي على فقد أعز إنسان على قلبي، شعرت أنني ضائع، كنت مُشتَّتَ الأفكار أجلس وحيداً آخر كل ليل مع خياله، مع ذكرياتي معه، أتصوَّرُه أمامي، أُحدِّثُهُ، يُحدِّثني، وعندما أغفو من الإعياء كنت أراه في نومي.‏

خلال أيام العزاء بدأتِ الوشوشات تسري بين أفراد العائلة، وحين استوضحتُ الأمر من أبي قال: المرحوم جدك ترك وصيةً مكتوبةً لدى ابن عمتكَ المحامي على أن يفتحها في ذكرى أربعين وفاته.‏

بنى أعمامي وأولاد أعمامي بعض الآمال على وصية المرحوم، وبدأت الشائعات أن جدي يُخبِّيءُ عدداً لا بأس به من ليرات الذَّهب «العصملية» ولا بد أنه سيكشف في وصيته عن مخبئها ويُوزِّعها على أفراد العائلة بالتساوي، وهناك من قال همساً أن أبي استولى على التركة، نبَّهتُ أعمامي أن لا يُسيئوا إلى أبيهم بعد وفاته فلقد كانت سمعته عطرةً في حياته ويجب أن تبقى كذلك بعد وفاته.‏

كنت طيلة الأيام التي تلت العزاء قلقاً بانتظار صدور نتائج الشهادة الثانوية، وعلى الرغم من تأكدي أن مجموعي سيكون جيداً لم أكن أستطيع طرد القلق.‏

صادف صدور نتائج الشهادة يوم ذكرى أربعين المرحوم، وانهالت عليَّ التهاني بتفوقي طيلة النهار، وبدأت أسئلة المهنئين تقلقني عن أيِّ فرعٍ سأسجلُ في الجامعة، حتى تلك الساعة لم أكن قد قررت.‏

لكني لم أكن أستبعد فكرة دراسة الأدب العربي لطالما كان المرحوم يوصيني بمطالعة الكتب الأدبية التي كان يُغدِقها عليّ، ولأنني كنت مستمراً في قرض الشعر أيضاًّ، لكنَّ الذي كان يشغلني أكثر هو موعد اجتماع العائلة المسائي على فضِّ الوصيَّة.‏

في المساء لم يتخلف أي فرد من عائلتنا عن الوصول مبكراً إلى مكتب المحامي الذي فضَّ المظروف وبدأ بالقراءة وعشرات العيون النَّهِمة تتلقى وصايا جدي الأخلاقية من فم المحامي وتلقيها خلف ظهورها، فالجميع بانتظار كلام تهطل منه ثروة مُفاجئة، وانتهى المحامي من القراءة، لا ذهب، لا مال، لا عقارات، فالوصية كانت عبارة عن رسالةِ أبٍ مُسافرٍ إلى أبنائه يوصيهم فيها بالمحبة والتعاون، ويؤكد عليهم الاهتمام بتعليم أبنائهم حتى نيل أعلى الشهادات الدراسية. وقد ختمها بقوله: الأخوة الذين تجمعهم المحبة الحقيقية لا تستطيع أن تفرقهم المصالح الفردية الضيقة.‏

كنتُ أراقب الوجوه تتلون بخيبات الأمل، وعمَّ القاعة الوجوم الذي لا يخلو من الخجل عند البعض، صمت المحامي للحظةٍ يُراقبُ الوجوه التي تخشَّبَتْ، بمزيدٍ من الأسى، ثم استدرك قائلاً بحركة تمثيلية لا تخلو من الشَّماتة:‏

بقي من الوصية مظروف صغير موجَّهٌ منَ الجدِّ إلى حفيده، التفتتِ العيون بحركةٍ مفاجئةٍ إليّ وهو يناولني المظروف:‏

- أسمِعنا ماذا ترك لك المرحوم؟‏

فتحتُ المظروف بيد مرتجفةٍ لأجِدَ سطراً واحداً مكتوباً بخطٍ جميل لم أتمالك أن بللته بدموعي وأنا أقرأ:‏

«ولدي الغالي: تُريحُ جَدَّكَ في قبرهِ إذا نفَّذتَ وصيتهُ الأخيرة ودرستَ التاريخ، والسلام. التوقيع: جدك».‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية