وخاصة بعد هزيمة حزيران التي سببت صدمة هائلة للمجتمع العربي ولمثقفيه، عندما تهاوت دعاوى الإعلام العربي، وتجلت حقائق طبيعة المواجهة مع العدو الصهيوني واضحة، فاستيقظ وعي المثقف على واقع مزر كان مشبعاً بأكاذيب الإعلام ومبالغاته الفارغة من أي محتوى مستند إلى الواقع، عند هذا المنعطف في حياة الإنسان العربي، وحول الوسائل وأشكال التعبير التي تنقله إلى حيز التأثير المباشر على الصعيد السياسي والاجتماعي والفكري، وحول كيفية تشكيله أو تأسيسه لوعي جديد بالواقع الجديد، كانت مسرحيات بريشت تلبي تطلعات المسرح العربي.
لم يتوفر في تجارب المسرحي العربي ما يسعف المسرحيين في تناول ومعالجة القضايا الراهنة شكلاً ومضموناً، فالتفتوا إلى العالم بحثاً عن النموذج الذي يمكن التعلّم من تجربته والاقتداء به، فوقعوا على بريشت الذي كان تأثير مسرحه كبيراً في أوروبا، وتعود أسباب اللقاء مع مسرح بريشت إلى أمور عدة، منها أنه مسرح سياسي اجتماعي بامتياز، وأنه شكل فني جديد لافت للنظر، وله حضور أوروبي، ثم توفر ترجمات أعماله المسرحية والنظرية إلى الفرنسية والانكليزية كل هذا قد لعب دوراً كبيراً في حضوره في المسرح العربي.
إن مسرح بريشت يستند إلى نظرية متكاملة في التأليف والإخراج والتمثيل والديكور والأزياء والإضاءة، وهذا الجانب يستند بدوره إلى موقف فكري متكامل من العالم، ومن هنا يصعب التأثر بمسرح بريشت بصورة إبداعية إن لم يتم التعرف على نظريته بكاملها فكرياً وفنياً مع توفر الوعي بكيفية الاستفادة منه محلياً في ظروف واقع مغاير ثقافياً وفنياً واجتماعياً وتجاه جمهور يحمل ذائقة جمالية مختلفة، واللافت أن بريشت منذ بداياته لم يكن يؤمن بالعبقرية الفردية للفرد في المسرح، وإنما بأسلوب العمل الجماعي مع معاونيه في الكتابة والعرض المسرحي.
انطلاقاً من الظروف التي مرت بها البلدان العربية وحاجتها إلى النموذج الذي يناسبها، تلقى مسرح بريشت من دون التفريق بين الملحمة والملحمي، ومن دون التمييز بين مراحل مسرحه باعتباره محرّضاً لعقل المتفرج، وباعتبار المجتمع العربي كان متعطشاً ومهيئاً من الناحية الفكرية والأيديولوجية ليس انطلاقاً من الموقف الجمالي بل من الموقف الأيديولوجي، لكي نحلل عملية التأثر بمسرح بريشت في المسرح العربي، لابد من تناول طرق التواصل التي تم عبرها هذا التأثر، إذ قام بالترجمة أناس غير مختصين بالمسرح ولا يعرفون عن بريشت إلا قليلاً، فظهرت غالبية هذه الترجمات بعيدة عن روح الأصل، أو بعيدة عن خصوصية اللغة المسرحية، ما أدى إلى عدم فهمه، ورغم ذلك قُدمت مسرحية «الاستثناء والقاعدة» من إخراج فاروق الدمرداش في القاهرة بالتوازي مع إخراج شريف خزندار القادم من فرنسا للمسرحية نفسها في دمشق عام 1964، «قدم شريف خزندار فيما بعد هذا العرض كشريط سينمائي صور خصيصاً لمركز برلين إنسامبل، لأنه من الوثائق القديمة التي قدمت لأرشيف بريشت»، وبقي بريشت يحوم في سماء المسرح العربي دون أن يحط رحاله على خشبات المسارح لسبب أن المخرجين كانوا يلاقون صعوبة في إخراج نصوصه لعدم فهم مراحل مسرح بريشت، ما تولّد لدى المتفرج العربي بأن مسرحه جاف وبارد وبعيد واقع عن مجتمعنا ولا يحرك المشاعر بل يخاطب العقل الألماني، فمثلاً بعد «الاستثناء والقاعدة»، جاءت مسرحية «بنادق الأم أمينة» لرفيق الصبان و»الهوراسيون والكوراسيون» و»رجل برجل» إخراج فايز قزق، وهذا أول عرض «رجل برجل» قدم تقنيات التغريب بشكل إبداعي في المسرح العربي، ومع استيعاب المراحل التاريخية ونضجها الفكري والفني، قُدمت أعماله في بيروت وبغداد والقاهرة ودمشق والجزائر بالتناوب باعتباره تياراً مغايراً في المسرح.
والإشكالية التي وقع فيها المخرجون هي أن هذه العروض كانت تقليداً لمسرح بريشت وليس إبداعاً عربياً كونهم لم يفهموا تطور مسرحه، فمثلاً أعتبر كمال عيد أثناء تقديم مسرحية «طبول الليل» أنها تعبيرية، وذلك بسبب سوء الترجمة والتشويه في بعض مواقف الشخصيات، وفهم رجاء النقاش مصطلح الملحمي بالمعنى القديم، فانصرف ذهنه إلى ميزات الملاحم القديمة وراح يلصق صفات أبطال الملاحم ببطل المسرحيات، وتالياً نلاحظ أن بريشت ليس واحداً إنما هناك بريشتات مشوهة في المسرح العربي كما يقول د. عبده عبود.
لم يستطع المسرح العربي الاطلاع على مؤلفات بريشت النظرية والمسرحية، إذ لم يترجم منها إلى العربية سوى مقالات متفرقة حتى نهاية السبعينات وما ترجم لايقدم وجهة نظر بريشت، ولهذا كان استيعابه قاصراً إن لم نقل مشوهاً، وأصبح بريشت موضة كما حدث مع معظم التيارات الوافدة إلى المسرح العربي، فأخذ المسرحيون العرب يستخدمون الراوي والتغريب وتدخله في الحدث وتوجيه الممثل إلى الجمهور واستخدام الأغاني ونزول الممثلين إلى الصالة، وكانت هذه المحاولات مقلدة لا تنبع من الروح العربية أكثر منها إبداعية، لقد راهن بعض رجال المسرح العربي وخاصة الكتاب ذوي الميول اليسارية على الفكر السياسي لديه أكثر من اعتمادهم على الفكر الجمالي، في حين أن نقاد المسرح استسلموا للشعارات ولم يدخلوا في جوهر مسرحه، لكن في ذلك الوقت توجه مجموعة من المسرحيين العرب إلى الاستيعاب المبدع لبريشت الذين درسوا في الغرب أو الشرق مثل كاتب ياسين الذي التقى بريشت قبل وفاته في باريس، وتحدث معه عن مسرحيته «الجثة المطوقة»، واطلع البعض على أعماله في ترجمات موثوقة ورأى البعض مسرحياته بإخراج فنانين انطلقوا من مفاهيم بريشت، بل وطورها وفق خصوصية ظروفهم وجهودهم، وكان هناك بعض المسرحيين يجيدون الفرنسية والانكليزية، وسنحت لهم فرصة الاطلاع على تجارب برلين انسامبل، وفي كلا الحالين كان هؤلاء ينتمون إلى الفكر اليساري، ويمتلكون ثقافة واطلاعاً أدبياً ومسرحياً واسعاً، مما أهلهم للدخول إلى عوالم بريشت وهضم أسس وتطورات مسرحه في سياقه وظرفه التاريخي، ولم يخلطوا بين مراحله الإبداعية، بل استوعبوا أسباب ظهوره ثم تجاوزه مرحلة معينة، رابطين بين الكتابة المسرحية والنظرية والممارسة العملية للإخراج، إلى جانب مواقفه من الظواهر المسرحية والسياسية والاجتماعية، فأدركوا سلم تطوره من المرحلة المبكرة، إلى التعليمية فالملحمية والجدلية، وفهموا لماذا لم يطرح بريشت في مسرحياته مفهوم البطل الإيجابي، ومع كل هذا جاءت أعمال هؤلاء العرب منذ مطلع السبعينيات متباينة في أدوات تعبيرها وبنياتها الفنية.
واءم ونوس ما بين انجازات المسرح العربي وما يمكن الاستفادة من مسرح بريشت للبيئة السورية في الظروف الراهنة، نلاحظ أن مسرحيات ونوس منذ السبعينيات مثل سهرة مع أبي خليل القباني ومغامرة رأس المملوك جابر والملك هو الملك، وحتى مسرحياته الأخيرة جاءت استيعاباً إبداعياً لمسرح بريشت ومدى اندماجه في بنية المجتمع العربي، وذلك من خلال البنية الملحمية، والتأكيد على التأريخية وبينة النص المفتوح التي تتكامل عبر الارتجال في عملية الإخراج.
ظهر جلال خوري منذ مطلع السبعينيات في بيروت كمخرج ومؤلف مسرحي، لم يكتف بإخراج مسرحياته بل قدم أعمالاً لبريشت كان لها الأثر في حركة المسرح اللبناني مثل عرض «جحا في القرى الأمامية»، أما بصمة بريشت في مؤلفات خوري فقد كانت واضحة سواء في نص «بن غوريون وشركاه» أم «في سوق الفعالة»، وحتى في «الرفيق سجعان» التي قدمت بالألمانية في ألمانيا.
أما في مصر الذي تلقى الأصداء الأولى لمسرح بريشت منذ نهاية الخمسينيات، فقلما نعثر على كاتب تجلت في مسرحياته تأثيرات بريشت بشكل إبداعي، إلا إذا اعتبرنا البينة الملحمية في مسرحيات نجيب سرور الشعرية، ياسين وبهية وآه ياليل ياقمر، أه يابلد، وأوبرا الشحادين دلالة غير مباشرة على تأثره بمسرح بريشت الشعري في إطار توجهه الوطني ذي الصبغة اليسارية، يسيء كمال عيد فهم مسرحيات بريشت المبكرة بعل، وطبول الليل، وفي أدغال المدن مصنفاً ضمن التيار التعبيري، ونجد مخرجاً آخر هو سعد أردش الذي اطلع على تجارب بريشت حاول في بعض أعماله استلهام منهج بريشت في الإخراج والتمثيل من دون نجاح التجربة كونها كانت تقليداً وليس استيعاباً في الإطار المجتمعي السياسي، فيما أن بعض المسرحيين في تونس والجزائر والمغرب والعراق قدموا مؤخراً عروضاً بريشتية تلامس بنية قضايا المجتمع العربي.
قليلون من المسرحيين العرب ميزوا المراحل التاريخية وفهموا نصوصه ونظريته، فقدم الدكتور عادل قره شولي بحثاً مطولاً حول «برتولد بريشت في المرآة العربية» في مجلة الحياة المسرحية على ثلاث حلقات عام 1980، وحاول تصحيح الخطأ الأول والمغالطات بحق مسرحياته، وكان لتلميذ بريشت رودولف بنكا فضل كبير عندما زار دمشق وألقى عدة محاضرات حول ما بعد البريشتية.
أخيراً ترك بريشت بصمته على مجمل المسرحيين العرب كتاباً ونقاداً ومخرجين حتى لو كانوا رافضين لمنهجيته، والذين تأثروا، لم يتأثروا به حرفياً، فكل من خرج عن تقاليد المسرح الأرسطي كان بتأثير بريشت بغض النظر إن كانت التجارب بريشتية أو عبثية أو وجودية أو حداثية.