«أجبني: لو أوكِلَ إليكَ أن تبني بناءً يُمثّل مصائر الإنسانيّة، بهدفِ أن تحقق السعادة للبشر؛ فتحمل إليهم أخيراً السلام والهناء، ولأجل ذلك وجدتَ من الضروري واللازم أن تعذبَ كائناً واحداً صغيراً جداً، ليكن مَثلاً تلكَ الطفلة، التي كانت تلطم صدرها بقبضتيها، والتي لابُدّ وأن يؤسس بناؤكَ ذاك على دموعها، التي لا فديةَ ولا كفّارةََ لها، أفكنتَ توافق أن تكونَ معماريّاً في هذهِ الظروف قلْ ولا تكذبْ!»
ويجيبُهُ أليوشا: لا ما كنتُ أوافق.
في المقبوس السابق نلاحظ أن الروائي استخدمَ «دموع الطفل» رمزاً عميقاً وحاداً لرفض العنف بأشكالهِ كلها، وجعَلَ الأخوين إيفان وأليوشا يرفضان قبولَ مستقبلٍ حقيقيٍ مشرقٍ للمجتمع إذا كانت هناك ضرورة لوجود دمعةِ طفلٍ في أساسِ بنائهِ.
ومن قرأ أعمال دوستويفسكي سيرى أنّه في «الأبله» وجه نقداً حاداً للعنفِ بشكلٍ عام وفي «الشياطين» رفضَ ما يسّمى العنف الثوري وقد عَدّه كثيرٌ من الباحثين مؤسساً للفلسفةِ السياسيّة الإنسانيّة الوجوديّة.
والحقيقة أن بإمكاننا أن نضيفَ إلى مؤسسي هذا التيار: م. غاندي وإي. كانت وم.ل. لينغ، ونستطيعُ إيجاز مذهبهم بالمقولةِ التالية: «يمكنُ الوصولُ إلى الهدفِ الصالح، أو الغاية الصالحة، بالطرقِ الصالحةِ فقط»، ذلكَ أنّ مسيرة حياة البشرية تثبتُ أن الغاية ترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بالوسائل المؤديّة إليها، والتي بمساعدتها يمكن بلوغها، ولهذا فلا يمكن أبداً بلوغ الهدف الصالح أو الغاية الخيّرة بوسائل فاسدة، ذلك أن طبيعة هذا الهدف ستتغيّر حينها وسيصبحُ هدفاً آخر تماماً، غير صالح بالتأكيد! وهذا ما يدحض ما ذهبت إليه الماكيافيليّة من أن «الهدف يبرّر أيّة وسيلة» يوم قام أتباع ماكيافيلي بحذف عنصر هام من مقولته الشهيرة وهو : «الهدف الصالح» وبالتالي برّروا للسياسي اتباع ما يشاء من وسائل لبلوغ هدفه.
وأصبحت الماكيافيليّة جوهر سياسة عصر النهضة، واعترف بها حرّة ً مستقلّة عن القيود الأخلاقيّة.
إيمانويل كانت رفض ما طرحته الماكيافيليّة من تحرير للسياسة من الأخلاق، وأكد أن الهدف الحقيقي للسياسة «هو التوافق مع الهدف العام للمجتمع»، واستطاع توظيف نتائج الدراسات النظريّة المختلفة لعصر التنوير فأسس أشكالاً وطرقاً قانونيّة للنضال من أجل تغيير النظام الاجتماعي، وأعلن أن الفرد هو الهدف الأساس للمؤسسة الاجتماعية: «حقوق الإنسان يجب أن تعدّ مقدّسة، مهما كلّف ذلك السلطة المسيطرة من تضحيات».
ولقد وضّح إي. كانت بأسلوبٍ تنويري أنّ الشيطان نفسه – إذا ما كان قادراً على إجراء محاكمات عقليّة – فسيتحول بالنتيجة إلى ملاك خير، فكيف هو الأمر إذاً لو دار الحديث عن ذلك الأمر التافه: كالأنانيّة البشريّة !
لقد آمن الرجل بإمكانيّة التربيّة الاجتماعية، واعتقد أن بالإمكان الانتقال بالأنانيّة البشريّة باستخدام التربية الاجتماعيّة السليمة في المجتمع إلى مرحلة تتحوّل فيها البشريّة من شعوب متناحرة إلى «مجتمع ٍ مدني ٍ حقوقيٍ شامل».
بعد ذلك سيظهر تيّار آخر يدعو إلى السياسة المسالمة، التي ترفض» مقاومة الشر بالقوّة»، وسيكون الروائي المعروف ليف تولستوي أحد أهم دعاة هذا التيار، وهو يختلف عن تيار السياسة الإنسانية اللاعنفيّة التي تبيح عند الضرورة «مقاومة الشر بالقوّة»، بأنه يرفض تماماً استخدام القوّة!
وبناءً على ما تقدّم يمكننا القول: إن الإنسانيّة ستكون قادرة على البقاء على قيد الحياة في هذا الزمن المفصلي من تاريخها عندما تعترف - بالأفعال والممارسة وليس بالكلام – بالقيمة السامية للحياة البشريّة؛ لكل حياة ٍ إنسانيّة بعينها، وعندما يتجسّد المبدأ الإنساني العظيم الذي طرحه إيمانويل كانت: «الإنسان هدفٌ وغايةٌ ولا يمكن أن يؤدي دور الوسيلة أو الأداة أبداً».
فالإنسان أسمى من أن يقدّمَ أضحيةً من أجلِ أي أيدلوجيات أو أفكار أو مصالح أو عقائد مهما كانت!