« اختيار المرء قطعة من عقله» سيجد قارئ « من بيادر الحكمة والأدب» قدراً كبيراً من الحكم والآداب والوصايا والرسائل التي صيغت في قوالب نثرية وشعرية آخاذة، تجمل الحقائق، فتعطف إليها القلوب، وتضاعف ابتهاج الأنفس المؤمنة بها، ذلك لأن الحكمة ضالة المؤمن وهو يعرفها وينسوها معرفة البدوي ونشدانه لناقته التي ضلت طريقها...
هي دعوة الكاتب إلى مائدة الحكم والآداب التي استطاب هو ما قدم عليها من أطايب ولذائذ، يمتع القارئ فيها بما احتوت عليه من أدب رفيع، مستفيداً مما انطوت عليه من حكمة بالغة تغني العقول، وتضيف إلى رصيدها المعرفي عمقاً وثراء، وتقدم للأذهان متعة التجوال في حدائق التجربة الإنسانية الخصبة، بكل ما تضمنته من تجارب، وما دونته من أحداث تقدم لنا الأمثولة المفيدة، وتتيح الاطلاع على أنماط حياة، وآليات تفكير، لايزال بعضنا قاصراً عن مداها، وعاجزاً عن إنتاج ما يقاربها، لأنها اتصلت بما هو إنساني أصيل، وعبرت عما يعتمل في وجدان الإنسان من ألم وقرح وتوق وانكسار...
إضافة إلى دفع الإنسان إلى الارتقاء وبسلوكه، وإنسجاماً مع ارتقائه بوعيه واتساع مداركه، وانفساح آفاق تفكيره، ما يخرجه من جمود التعصب لفكره، ويخلصه من وثنية العقل، ويتيح له التفاعل الخلاق مع مختلف المشارب والتيارات الفكرية، ويؤصل فيه حبه للإبداع العربي، وتمسكه بتراثه الفني، واحترامه لمصادره الجليلة...
الكتاب أشبه ما يكون بحديقة برية، تتشابك فيها الأشواك والورود فوق بساطها الخصب، ولا يحد جمالها فوضى الألوان ونزق الأعشاب...
ومن العناوين التي حفل بها الكتاب « في حب الوطن، فضل العلم، من منثور الحكم، فضل الخطاب وتوجيهه، في المرأة، وأقوال صادقة تنفع الشباب والمرأة، فقطف منها:» الشعب، أي الشعب ومن شهدائه، تعلم كيف يستنبت الدم فينبت منه الحرية، وكيف يزرع الدمع فيخرج منه العزم، وكيف يستثمر الحزن الحزن فيثمر له المجد... إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول في متابه العزيز « كونوا قوامين بالقسط شهداء الله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين»، إن النصر في معركة الحياة ، لا يأتي من المال والثراء والمتاع، ولكن من المعاناة والشدة والصبر، وإن التقدم الإنساني لا يباع بيعاً، ولا يؤخذ هوناً، بل هو انتزاع من الحوادث بالأخلاق التي تتغلب على الأزمات...
أما في باب أهجى وأغزل وأشجع أشعار العرب وأفضلها فيورد أبياتاً للفرزدق يمدح فيها علي بن الحسين عندما أراد أن يتجاهله الخليفة هشام بن عبد الملك، عندما شق الناس له طريقاً أثناء طوافه بالكعبة يقول:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم.
أما أغزل بيت فقد قاله جرير:
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنساناً
ومن جاء في باب صلاح النفس :« إن أساس الدين والكرامة ، ألا يخرج إنسان عن قاعدة الفضيلة الاجتماعية في حل مشكلته إن تورط في مشكلة، فمن كان فقيراً لا يسرق بحجة أنه فقير، بل يكد ويعمل ويصبر على ما يعانيه من ذلك... إنما الدين في السمو بالأخلاق الفاضلة على إهواء النفس ولا يتسامى امرؤ على نفسه وأهواء نفسه، إلا بإنزالها على حكم القاعدة العامة، فمن هناك يتسامى، ومن هنا يبدو علوة فيما يباغ إليه...
الكتاب: من بيادر الحكمة والأدب. - إعداد الكاتب أحمد حباب. - الطبعة الثانية 1911، مطبعة الآداب والعلوم. - يقع الكتاب في 440 صفحة من القطع الكبير.