نتيجة للتواطؤ الرسمي العربي في معظم مستوياته، مع المشروع الجامح القادم من الغرب الاستعماري وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، والهادف إلى ترويض سورية أو إسقاطها كدور وموقع، وصولاً إلى خريطة عربية متجانسة، تسيطر عليها القوى الظلامية الناهضة من أنفاقها السياسية السرية، لتقطف ثمرة الحكم، وتستأثر به بحد السيف مستندة إلى ركنين يبدوان في الشكل على أنهما عصيان على الكسر، وهما الخطاب الديني المؤثر في الحاضنة العربية، والتفاهمات الضمنية التي صارت شبه معلنة مع واشنطن، حول القضيتين المركزيتين اللتين تشغلان بال كل إدارة أميركية، وهما أمن كيان الاحتلال الصهيوني، واستمرار السيطرة الأميركية الغربية على منابع الطاقة، حيثما وجدت هذه المنابع في جوف أراضي العرب وبحارهم.
وبعد أن تهيأ لرعاة هذا المشروع وأدواته، أن الشمال العربي الإفريقي قد بات بمعظم أقطاره ممهداً أمام إمكانية رسم هذه الخريطة المتجانسة، فإن المشرق العربي الذي تتصدره وتختصره سورية، أصبح المحطة الأخيرة التي تكتمل فيها الرحلة، وينتصب قوس النصر على جدث آخر حصن قومي في حواضر العرب، فيما لو ابتلع السوريون الطعم وصدقوا أن التغيير الملتبس في مصر وتونس وليبيا هو نتاج حراك ثوري من أجل الحرية والديمقراطية، وليس نتاجاً لمشروع شرق أوسط جديد يشطب مفردة العروبة في قاموسه الجديد، ليحل محلها نسق من المصطلحات البغيضة كالمكونات العرقية والطائفية والمذهبية، انسجاماً مع مخطط التفتيت والتجزئة الذي يطيح بكل أحلام العرب في الوحدة، ويدخلهم في عصر الحروب البينية، حتى لا تقوم لهم قائمة إلى أمد غير منظور!
لم يبتلع السوريون الطعم، وبفطنتهم المعهودة وخبرتهم في الدفاع عن عروبتهم، قرروا المواجهة والصمود، واستطاعوا أن يميزوا وهم في أوج محنتهم بين التعبير الرسمي العربي الذي تمثله مشيخات وممالك متهالكة، وبين التعبير الشعبي العربي الذي لا يمكن أن ينخدع طويلاً بمفردات ربيع زائف تقوده القوى الظلامية، ولا يمكن أن يتعايش مع فكر رجعي يشبه ثقافة القرون الوسطى، يتسلل مع حقائب المال من جزيرة العرب إلى عقولهم، التي تشكلت منذ أكثر من ستين عاماً في لهيب المعارك القومية التي كانت القضية الفلسطينية بوصلتها الثابتة، ومن أجل ذلك فإن كل يوم صمود عاشته سورية في العامين الماضيين، كان يقابله يوم صحوة قومية في مصر وتونس، وكل خسارة تنزل بمسلحي الناتو على الأرض السورية، كان يقابلها شعار قومي أكثر علواًَ في شارعي هذين البلدين الشقيقين، يضاف إلى ذلك ولادة انتعاش من تحت أنقاض المشروع القومي، لأصوات كاد اليأس يسحق أحلامها، وكادت تظن أن الفكر القومي والعمل القومي باتا من الماضي، وأن المشروع الأميركي المتحالف مع قوى الظلام في المنطقة أقوى من طاقته على صده، لولا الصمود السوري الذي احتفظ بعافيته وقدرته على إيقاف خطا هذا المشروع التدميري على عتبات دمشق، الأمر الذي بدل طبيعة الدينامية القومية وفعلها لاستعادة البوصلة من جديد، وانتقال الحراك من كمائن الثورة المغدورة، إلى إقامة الثورة المكتملة التي يلهب شارعها اليوم في تونس اغتيال شكري بلعيد، وتمهد لها في مصر ميدان التحرير من جديد، ميليشيات السحل والخطف والفتاوى العمياء التي تهدر دماء النخب المصرية، فلا يستعجلن أحد منا ربيع العرب، فالفكرة مازالت حية، والقوميون يطرقون أبواب مستقبل الأمة بأكملها!