وتفكيك نسيجها التخيلي، وإقامة حلقات اتصال وتواصل، بين الفضاءين الداخلي والخارجي، في أزمنة متداخلة وأمكنة متباعدة، وشخصيات رئيسة تشكل العمود الفقري لبناء الرواية.
الثيمة الرئيسة في الرواية هي الفنّ. وتحكي الأحداث عن الواقع الموضوعي، ودور الفنون في الحياة من جهة، والتخيل في توظيف الواقع وحياة الشعوب، وأثبتت الحياة عقم مقولة «الفن للفن» من جهة ثانية.
بدأت الأحداث في مكان يلتقي فيه الفنانون للاستماع إلى محاضرة عن العمارة الأمريكية. ومن الشخوص الرئيسة في الرواية، «فلورا» الطالبة في السنة الأولى في كلية الفنون الجميلة. و»ماهر» الطالب في السنة الأخيرة في كلية الهندسة.
في الرواية محوران رئيسان، وشخوص أخرى تشارك في استكمال الأحداث. المحور الأول، يدور حول حياة الفرنسية فلورا الابنة الوحيدة المدللة، التي تعاني منذ الطفولة مرضاً نفسانياً. ويمثل المحور الثاني، الطالب السوري ماهر، القادم إلى باريس من إحدى قرى محافظة حماة. وهو فنان موهوب يهتمّ بعلم النفس الفرويدي، وله صديقة اسمها «آني».
ويضاف إلى المحورين عائلتا ماهر وفلورا، كمشاركين في الأحداث ومكملين لها. إضافة إلى تداخلات تخييلية مبنية على قواعد أسطورية، تساعد على تفعيل الخواتيم. أما الأمكنة فهي متباعدة عن بعضها بمئات الكيلومترات، وفي جغرافية متباينة التضاريس وتعدد خطوط الطول والعرض، وتنوع في الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد. السؤال: هل اختيار الروائي والفنان «نشأت» فرنسا التي استعمرت تونس وسورية جاء عفوياً أم عن قصد؟
وتدخل الدبلوماسية في قلب الحدث. فوالد فلورا أمضى سنوات عدة موظفاً في السفارة الفرنسية في سورية وتونس. وعندما ترك تونس كان عمر فلورا ست سنوات. ويظهر التفاوت العلمي والمعرفي والمادي بين الأسرتين، فعائلة ماهر فلاحية ميسورة تعيش في إحدى قرى حماة.
وكانت لغة العيون هي بداية العلاقة بين ماهر وفلورا. نظرات نابعة من الطرفين، ورغبة جامحة في معرفة ما يجري بين القلبين. وقد لفتت آني انتباه ماهر إلى تلك الفتاة التي تركز نظرها إليه لحظة بلحظة، وتتابعه يومياً رغم أنهما في سنتين دراسيتين مختلفتين. ويتنامى الحدث من خلال علاقة تربط بين الشخصيات الثلاثة «ماهر وفلورا وآني». وكل شخصية تطمح إلى معرفة واستكشاف ما يتفاعل في داخل كل واحد من أسرار. وتنسحب آني وتتحول إلى مراقبة ومرشدة. ويستمر ماهر في البحث عن سبب اهتمام فلورا به. ويخشى أن تنتهي العلاقة بخيبة أمل، حينما تكتشف أنه ليس الشاب الذي تبحث عنه. وهذه الخشية ناتجة عن دراسة جدية لنفسية فلورا المتشائمة والمكتئبة والقلقة دائماً دون أن تعرف الأسباب!
إن فلورا برأي ماهر من طبيعة خاصةجداً، وشخصية مستقلة، ودودة، رقيقة المشاعر، حسَّاسة، كأي فتاة شرقية، عاطفية كأي فتاة غربية. وفي المقابل عندما تغيب هذه الصفات، يفاجأ بظهور ملامح العنف والقسرية في لوحاتها المعلّقة في مرسمها، التي لا تنسجم مع طبيعتها كفنانة. وترى آني أن كل النساء في لوحاتها تجتمع في شخصية واحدة متكررة بأوضاع مختلفة. وأن هذه الشخصية هي فلورا. ومن المتناقضات أيضاً في هذه اللوحات، المظاهر المألوفة لأشخاص مثل شخصية ماهر. وأكدت فلورا أنها تعرفه منذ زمن.
تتألف الرواية من ستة فصول تتمحور حول شخصية فلورا الغارقة في بحر تخييليّ متلاطم الأمواج. ومن أبرز المتدخلين في حياتها اليومية منذ طفولتها الطبيب النفساني، ويتم تفكيك خيوط العقدة بصعوبة في سورية، من خلال خطة يشترك فيه ماهر، وتنجح أخيراً في زيارة تونس، وفي زواجها من ماهر في قريته.
ترتكز الرواية على أكثر من بُعد وأكثر من دلالة، وإشارات تدلنا على أن طريق الفن بدأ من زمن سحيق. وأن فلورا التي تمثله هي من ذاك الزمن، وتبني تخيلاتها على أرضية حضارية فنية، وقراءة تاريخية أسطورية. وفي حوار ساخن بين فلورا وماهر، في متحف اللوفر حول تمثال نصفي لـ نيرون، يختلفان في تقويم التماثيل. ويرى ماهر أن ملامح أوكتافيوس هادئة، مريحة، نبيلة، وأنه شاب وسيم. أما فلورا فتتناقض معه في هذا التوصيف، فهو يستشهد بقاتل متآمر اشترك بقتل يوليوس قيصر، الذي تبنَّاه وربَّاه وكان له أباً ومعلّماً. وتكشف الأحداث عن العلاقة بين الحضارتين السورية والرومانية، من خلال المهندس السوري «أبولودير» الدمشقي الذي صمّم أهم وأجمل الأبنية في روما.
ولم يكن ماهر شخصية دخيلة على ذاكرة فلورا، فهو مرسوم في مخيلتها أولاً، وفي لوحاتها ثانياً «لحية وشاربان وشعر في شكله البدائي» وهذا ما أثار دهشة ماهر. إذ قال لها: «إن اللوحة بعد أن اكتملت، أصبحت تشبه عمّي عوني». وأكدت فلورا له: «هو أنت وأنت هو، وسأثبت لك والأيام بيننا».
إن الأحداث التي كانت تسير في زمن تتابعي خطّي، سرعان ما حدثت فجوة أو انقطاع زمني، بعد تخرّج ماهر من الجامعة وعودته إلى سورية، لكنه بقي على اتصال دائم معها بوساطة الرسائل والهاتف. وأسست فلورا صداقة مع عمه الشاعر وأخته سعاد. واستمرت الأحداث بعد عودة ماهر ثانية إلى باريس لمتابعة تحصيله العلمي.
وتداخلت الأحداث في ثيماتها وحلقاتها، التي تشكل جسد الرواية وروحها في الشكل والمضمون، والامتداد إلى أعماق التاريخ والحضارات، والدور الذي لعبته المثاقفة بين الشعوب، وتعميق التواصل الثقافي والتجاري، خاصة أن فلورا تعلمت اللغة العربية، وماهر الذي بدوره أتقن اللغة الفرنسية، فأصبح الحوار بينهما يتم في لغتين اثنتين، مما ساهم عملياً في التقارب الروحي والثقافي، إلى جانب عوامل أخرى مساعدة منها على سبيل المثال «ديوان الشعر المهدى من عمه عوني إلى فلورا، والمقاربة بين التقاليد والنكات».
اعتمد الراوي/ السارد في التحليل النفسي على شخصية بطل رواية «غراديفا» للكاتب الألماني «جنسن»، الذي كان حريصاً على هذه العاشقة الولهانة المتشبثة به. وفي الوقت نفسه كان يتابع الحالة النفسية لـ فلورا مع زميلتها في المرحلة الثانوية، التي تتابع دراستها في علم النفس في «الكوليج دي فرانس». وقالت له: «إنها فتاة انطوائية، انعزالية، ترسم أكثر ما تقول، جريئة في التعبير عن رؤاها وأحلامها، ولكن في لوحاتها خلفيات أسطورية غرائبية».
ووجدت فلورا حقيقتها في «نرجس» زوجة عوني، وهي التي وقَّعت إهداء الديوان بالأحرف اللاتينية لاسمها القديم «نرسيسا». وتعتبر فلورا أنها هي نرسيسا، إذ كانت المربية التونسية تدللها بهذا الاسم. أما نرجس فهو نوع من الزهور البرية ينتشر في سهل الغاب بكثرة، وترمز للإله السوري القديم نرسيس.
ويرى طبيب فلورا، أنها كانت فتاة في سن المراهقة، تحلم بأنها أميرة قرطاجة، لكن هناك تبايناً كبيراً بين قناعتها وإيمانها بصحة ما تراه، ورد فعل المجتمع من حولها، الذي جابه ادعاءاتها بالسخرية والرفض، ونعتها بالجنون. وهذا الخلل سببه الرئيسي، المربية التونسية التي كانت توهمها بأنها «نرسيسا» أميرة قرطاجة، زوجة أمير شاب كان ضابطاً في الجيش اسمه «آذر»، أثناء الغزو الروماني للمدينة عام 165 ق.م. وهما اسمان سوريان قديمان.
ورافقت هذه الأحلام فلورا منذ طفولتها. ونجحت محاولاتها في إيجاد الشبيه لشخوص أحلامها، وأنها ستلتقي يوماً ما مع آذر. وكان ماهر هو الشبيه. أما الطبيب فكانت مهمته الفصل بين شخصيتي «فلورا ونرسيسا».
ويتبدل دور ماهر ويأخذ اسم «رشيد»، من أجل زعزعة أركان التخيل المشوه، وجعل ماهراً يلعب دور الوسيط بين الطبيب وفلورا. ويقوم عمه بدور الغائب. ولكن المفارقة المعقدة التي تشكل الحبكة، هو في التقابل الضدّي بين فلورا وعوني، وبين شخصيتين وهميتين هما نرسيسا وآذر.
ويتطور الصراع بين الحقيقة والوهم، في رؤية تخيلية معقدة، راسخة في الذات المتوهمة الساكنة في روح وجسد فلورا. ويتجسّد أسطورياً في زمن التطور، مستمداً روحه من التقمّص.
وتأتي المحطة الأخيرة في الرواية، لتفكيك هذه العُقد والحبكات متعددة الوجوه والأقنعة، التي شكلت تراكماً زمنياً وتاريخياً وحضارياً، في زواج ماهر وفلورا، كاد أن يتحول إلى زواج فاشل، لولا صبر ماهر الفنان المثقف، الذي لم يتوانَ لحظة في تنفيذ الخطة المتفق عليها، إضافة إلى شروط أخرى فرضتها فلورا عليه منها: «عدم السماح له الدخول إلى الغرفة الزوجية، إلاَّ بعد أن يرتدي لباس مقاتل قرطاجي، ويثبّت على وجهه لحية وشاربين». وصوَّرته لوحده ثم أخذت لهما صورة أخرى. وقالت له: «يمكننا الآن أن ننام في سرير واحد، فقد أصبحنا زوجين شرعياً ورسمياً.. أليس كذلك..!».
إن فلورا وخلال زمن قصير استطاعت في هذه القرية الحموية، أن تندمج مع الأسرة وكأنها فرد من أفرادها وحققت أحلامها. وأن ما حدث معها منذ 2100 عام مع زوجها الوهمي آذر، فهو يحدث الآن مع زوجها الحقيقي ماهر.