وتستمرُ في الحياةِ حياة، وتستمرُ بعدَ الحَياة.. لتكونَ اللُّغةُ التي لا تندثرُ ولا تموت، كلُّ نَأمة... كلُّ حَركة.. تستنهضُ الرُّوحَ لتسمو.. ولتُعلّمنا مَعنى أنْ يكونَ لنا.. جَسَد.
يجتهد الجسد البشري ليرسل إشارات لها دلالاتها، وفي كل حركة صوغ لمعنى مُراد وإلا كانت ضرباً من الاستعراض، تراها تتناغم مع موسيقى أو من دونها فحركتها موسيقى بحد ذاتها، تظهر جمال الجسد البشري الذي أبدع الخالق في تكوينه.
أغيد شيخو... فنان سوري شاب قدم العديد من الأفلام القصيرة التي تبرز موهبته كراقص وممثل، يحاول باستمرار جذب المتلقي إلى قدرة كامنة فيه لندرك معه أن للجسد البشري وطرق تعبيره عن احتياجاته ومكنوناته إنما يسير في مفازات جُعلت له وحده ليبدع ويثير أسئلة جَمّة.
يجتهد أغيد شيخو في ترسيخ هذا النوع من الفنون عبر تجاربه المتتابعة كمحاولة لترك أثر فيه، وليؤدي دوره في الرقص التعبيري الذي يسهم في التعبير عن رؤى العالم الداخلي له عبر لغةٍ للجسد تحلُّ محلَّ الكلام، لا عن عجز في استخدام لغة تخاطب بل لإطلاقها حرة لتعبر عما يجيش في الصدور، وذلك ضمن فضاء رحب يحمل انفعالات ورغبات وهواجس ليعبّر الجسد عن مختلف الحالات الشعورية والنفسية والفكرية التي تنتاب الإنسان.
شيخو اكتشف جسده وحرّره من القيود، وهو إذ يقدم أعماله عبر أفلام قصيرة فإنه يحمّلها أفكاراً ورؤى يصر على إيصالها للمتلقي بتقنية جيدة تعتمد على مهارته الجسدية وقدرته على هذا النوع من التمثيل الصامت بتبسيط حيناً ودفع لوتيرة الحامل لهذه الأفكار حيناً آخر، تلعب الموسيقى فيها دوراً أساسياً لتحرّض على تكوين حركات الجسد التي تتواءم معها وتوحي له بما يعبر عنه من حركات الجسد لتخدما معاً الفكرة المطروحة وليسعى عبر استحضار الطفولة الكامنة داخل الإنسان ليؤكد حضورها وتأثيرها على مستقبل ما يتوالى من أحداث في الحياة... عبر حكاية تعبر عن حالة تتداخل في تفاصيلها مشاعر الحزن والفرح والألم... الخوف والتمرد والتحرر... فتتطور هذه الحالة تبعاً لما يراد من الحكاية أن تقدم من أفكار، لتكوّن دراما الحالة ولتصبح جزءاً من عرضه الذي يقدمه.
نرى شيخو في أدائه مختلفاً فيما يقدمه تبعاً للفكرة المطروحة ضمن سياق درامي واضح يحمل الكثير من الإشارات والإيماءات، كما يبدو متحرراً في حركات جسده ومن جزء من لباسه حيناً ومستخدماً لما يدل على فكرة الفيلم حيناً آخر، كما في فيلم «ذكريات الفينيق»؛ حيث يبدو عاري الصدر، وفي هذا توظيف لما تطرحه فكرة الفيلم، في حين يقدم فيلم «انعكاس» بلباس يعتمد اللونين الأبيض والأسود وهما أساس فكرة ما يقدمه في الفيلم حيث التنازع ما بين الخير والشر ومدى تأثير كل منهما في حياة الإنسان وفي تعابيره الجسدية وتغير ملامحه وحركات جسده وإيماءاتها الدالة على سيطرة أحدهما على الآخر وتأثيرهما.
ولا يخفى ما للجسد من تأثير في هذا النوع من الأداء التعبيري إذ يعتبر هو الحامل الأساس والمعول عليه لتقديم الفكرة عبر إيماءات الجسد والإشارات التي يرسلها والمشاعر المتحررة التي يطلقها لتبرز الفكرة وهو في ذلك أداة جمالية تسهم بشكل أساس في إنجاح ما يقدم عبر سيناريو مُحكَم لا تشرد فيه حركة واحدة للجسد دونما توظيف لما يراد إيصاله، فلا مكان هنا للارتجال وليس مقبولاً المبالغة في الأداء.
فيلم «ذكريات الفينيق»
لا شك أننا نعيش الحياة في فضاء من الحكايات المتصلة بحكايات الآخرين، ومما تختزنه الذاكرة وتداعياتها من سنوات الطفولة الأولى ومجرياتها بما يؤثر على انفعالاتنا ومشاعرنا... فترانا نعبر عنها بلغة خاصة ينحو فيها الجسد نحو الخلاص من تأثيرات تلك الحكايات وما يتقاطع منها مع واقعنا الحالي.
أغيد شيخو في ذكريات الفينيق يبدع في أدائه ويأخذنا نحو فضائه الرحب، تراه دارساً لكل حركة يبني عبرها القصة الخاصة به ليدهشنا بأدائه العميق والجاذب فنتابع منشدين ونعيد المشاهدة لنكتشف مع كل إعادة بناء جديداً وتصويراً دقيقاً لمعنى لغة الجسد التي يستخدمها بمرونة ودقة، يغرقنا تارة بحزنه ويفرحنا تارة بإيماءات جسده حتى نكاد نحلّق في فضائه الرحب دونما رغبة في العودة إلى يابسة الحياة وما يكتنفها من يباس... إنه يحاورنا بلغة تسمو بنا وترسل لنا إشعاعات جريئة وقوية تنسربُ إلى داخلنا بحب لتشكل هوية للحلم وأرضاً تتسع لتوالد أحلام جديدة.. إنه ببساطة يقرّبنا من عشق نهرب منه أو نكاد نخفيه لئلا نضبط متلبسين بعشق الحياة وما فيها.. مدة الفيلم التي لا تتجاوز السبع دقائق قادرة على فعل أكثر من هذا فالمتابعة مستمرة والإعادة كشف جديد.
فيلم «انعكاس»
تتمحور فكرة الفيلم القصير «انعكاس» حول الصراع الذي يحياه الإنسان بين الخير والشر، وتأثير كل منهما على الآخر كقطبين متنافرين يجعلان الإنسان في حالتين متناقضتين يكاد لا يشبه نفسه إذا ما قورن في كل حالة يعيشها والتأثير المباشر عليه حين يختار كلاً منهما. ففي البياض ترتاح الروح وتهنئ لينعكس وجودها على الجسد فيتمازج مع الصفاء وينساب مع كينونتها برقة وانسجام، في حين يفرض السواد أجواء ضاغطة منفرة وقاهرة تنعكس بدورها على الجسد فيغير من مسارها ويجنح بها نحو عتمة مسيطرة وقاسية.
الطفولة حاضرة في الفيلم من خلال صور مرافقة تجسد القهر والتعذيب والألم الجسدي والنفسي الذي يعكس بدوره تداعيات الإخضاع له وتحمله نتائج ما يتفاقم حدوثه في الطباع والملامح والسلوك وما يغير في الجسد من لغة تعبيرية لا تتشابه في شيء مع تلك اللغة المرافقة لبياض الخير ونوره المشع.
يبدو أداء أغيد شيخو في هذا الفيلم ملفتاً ولا يدع مجالاً أمام المتلقي إلا لليقظة أمام سيناريو الحياة التي نعيشها... وقد أتت الموسيقى مناسبة لاختيار الموضوع، الفكرة بقدر بساطتها فهي الأشد تأثيراً في كل ما يدور من حولنا وفي دواخلنا، لذا فقد كان بناء متيناً أحكم صنّاع الفيلم السيطرة على المتلقي فيه... لكنها سيطرة أخّاذة تلقائية عفوية... تجسد الإنسان أولاً وآخراً.
يشار إلى أن الدراسات العلمية دلت في هذا المجال إلى أن التأثير في المتلقي عبر الجسد وما يقدمه من إشارات تصل إلى 70 % عبر اللاوعي الغريزي للمتلقي مقابل 30 % لما يحققه الكلام من تأثير، وعلى هذا النحو يبدو أغيد شيخو محافظاً على سلامة البناء العضلي لجسده، ومراعياً الانسيابية المطلوبة، يبدو متمرناً بنَفَسٍ طويل وعميق ليصل إلى عفويته في الأداء كما يبدو جسده مطواعاً له في أداء الحركات وقوياً في بنائه للغة الخاصة به.