وتركت إثر رحلاتها المتعددة كتباً ذات أهمية تاريخية وأثرية بالإضافة إلى دورها السياسي؛ حيث لقّبت بالملكة غير المتوّجة أيام الملك فيصل الأول في العراق، وفضلها كبير في إنشاء متحف بغداد واكتشاف مدينة دورا أوروبوس «الصالحية « على الفرات.
ولدت غرترود بل في 14 تموز 1868في واشنطن هول، كاونتي دورهام في إنكلترا لأسرة صناعية ميسورة. أنهت بتشجيع والدها دراسة التاريخ بدرجة امتياز العام 1888 في جامعة أكسفورد.
قصدت الشرق لأول مرّة العام 1892 لزيارة عمها في السفارة البريطانية في طهران، ووصفت زيارتها بكتاب بعنوان «صور فارسية» وترجمت «أشعار من ديوان حافظ» صدر 1897. وبين 1901 و1904 شاركت مع بعثات لتسلّق جبال الألب السويسرية.
درست الآثار وتعلّمت اللغات العربية والفرنسية والألمانية والإيطالية والفارسية والتركية. وعادت إلى الشرق أواخر العام 1899 وزارت بلاد الشام بدءاً من القدس؛ حيث ثابرت على تعلم اللغة العربية، وزارت البتراء وشمال الأردن وحوران ثم دمشق فشمال سورية ثمّ عادت إلى أوروبا.
جاءت بعد خمس سنوات إلى المنطقة، وبشكل خاص إلى جبل العرب. وألّفت كتابها «الصحراء والأرض الخصبة» The desert and the sown «طبع العام 1907» ذكرت فيه رحلة شاملة العام 1905 في القدس والأردن وسورية ولبنان، وصفت فيها العرب والأرمن والمواقع الأثرية التي زارتها بدءاً من القدس وبترا وعمّان ومأدبا والمشتى والمفجر وأمّ الجمال ثم القريّا وبصرى والقنوات وقلعة البيضا وهيات وشقّا، ومنها إلى دمشق فبعلبك والهرمل وحمص وقلعة الحصن وحصن سليمان ومصياف وشيزر وحماه ثم في جبل الزاوية. مرّت بالبارة وسرجيلا ورويحة وقصر البنات قرب دانا الجنوبية والتقت بالبعثة الأثرية لجامعة برنستون الأمريكية في قرية كراتين شرق معرة النعمان، وزارت قلعة حلب وقلعة سمعان وقاطورة وخراب شمس وقلعة كالوطه وبراد ودير براد وباصوفان ودارة عزة، كما زارت باقرحا وقلب لوزة وحارم وسلقين وأنطاكية والحربيات «دافنه» ونفق تيتوس في السويدية. وقد التقطت العديد من الصور للمواقع الأثرية المزارة والسكان. ثم رحلت إلى تركيا وعملت مع عالم الآثار السير وليام راسي وألّفت معه كتابها» ألف كنيسة وكنيسة» طبع 1909.
زارت الشرق مرة أخرى العام 1909 وقامت برحلة على طول الضفّة الشرقية لنهر الفرات بدءاً من كركميش وحتى البوكمال مروراً بمواقع تل أحمر، صرّين، المسعودية «المقابلة إلى قلعة نجم»، تل البنات، الرميلة، منباقة، الحديثة، الشيخ حسن، عناب السفينة، حلاوة، تل مريبط، قلعة جعبر، الصفصافة، تل الفري، كديران، هرقلة، الرقّة، حلبية، دير الزور، البصيرة والبوكمال. ثم تابعت إلى العراق لتستكشف قصر الأخيضر وبابل والنجف وبغداد. وأسمت كتابها «أمورات إلى أمورات» Amurath to Amurath طبع 1911. كما أصدرت كتاب «قصر ومسجد الأخيضر» طبع 1914.
رحلت إلى الجزيرة العربية العام 1913 وكانت ثاني امرأة تزورها بعد السيدة آن بلونت.
بدأ عملها السياسي العام 1915: انضمت إلى «المكتب العربي» في القاهرة وأُرسلت إلى البصرة لمساعدة الجيش البريطاني لدخول بغداد. وعند دخول البريطانيين بغداد العام 1917 أوكل اليها المفوض البريطاني بيرسي كوكس وظيفة «سكرتيرة الشرق» وأصدرت كتاب «العرب في بلاد الرافدين» طبع 1917. وفي العام 1921 اختارها تشرشل مع الكولونيل لورنس «العرب» للمشاركة في مؤتمر القاهرة الذي تمخّض عنه قرار تشكيل مملكتين هاشميتين في العراق وشرق الأردن.
أصبحت المستشارة الأولى للملك فيصل في العراق وتعتبر الملكة غير المتوّجة، وشغلت وظيفة مديرة الآثار في بغداد، وأسّست متحف بغداد العام 1923. وعند انسحاب الحامية البريطانية من «الصالحية» على الفرات في 30 آذار 1920 تطبيقاً لمعاهدة سايكس بيكو والانتداب الفرنسي في سورية، أعلمت الحامية بغداد بمشاهدتها رسوماً جدارية. أرسلت المس بل في الحال، وهي تعرف أهمية مواقع الفرات التي سبق أن زارتها العام 1907، العالم جيمس هنري بريستد مدير المعهد الشرقي في شيكاغو، وكان آنئذ ينقب في العراق، ليقدّم تقريراً عن الموضوع، فاكتشف بعد عدة ساعات من التحرّيات الميدانية وجود مدينة «دورا أوروبوس» التي أسسها سلوقس نيكاتور العام 301 قبل الميلاد في موقع «الصالحية».
غادرت المس بل إلى لندن باستلام هنري دوبس السلطة في بغداد العام 1925، لكنها وبسبب مشاكل عائلية عادت إلى بغداد.
توفيت صباح الاثنين 12 تموز 1926 قبل يومين من احتفالها بعيد ميلادها الثامن والخمسين. وُجدت ميتة وإلى جانبها علبة حبوب منوّمة ربما أودت بحياتها.
تسمية كتاب»أمورات إلى أمورات»
إنه اسم الكتاب الذي أطلقته الباحثة المس غرترود بِل على رحلتها الرائعة التي قامت بها على طول الضفة الشرقية لنهر الفرات بدءاً من موقع «كركميش» شمال سورية وحتى العراق، وصفت فيها بشكل خاص التلال والمواقع الأثرية التي شاهدتها وأغنت الكتاب بالصور وكان ذلك عام 1909.
حاولتُ أن أفهم من مقدمة الكتاب الموجهة إلى اللورد كرومر معنى العنوان «أمورات إلى أمورات» فلم أفلح، وفهمتُ من سياق الأسطر أنه تعبير عن تكرار أو رتابة. استفسرتُ من صديق بريطاني هو البروفسور ديارميد ماكولوك أستاذ كلية اللاهوت في جامعة أوكسفورد ومؤلف كتاب شامل عن «تاريخ الكنيسة»، سبق أن أجرى معي مقابلة بالإنكليزية عام 2008 في قلعة سمعان بثّها التلفزيون عام 2009 من محطة الـBBC فأجابني بالمعلومات التالية أضعها بين أيدي القراء لفائدتها:
إنّ «أمورات» تعني «مراد» وهو اسم أطلق بالإنكليزية على بعض سلاطين بني عثمان في القرن السادس عشر. وقد اقتبست المس بل التسمية من مشهد في مسرحية شكسبير «هنري الرابع» الجزء الثاني، والذي يؤكّد فيه الملك الجديد هنري الخامس على رأفته ورحمته بالمقارنة مع السلاطين العثمانيين «وهذه مفارقة تاريخية محضة حيث أن الملك بالكاد سمع بالسلاطين»، ويقول لأصدقائه القدامى القلقين:
«هذا الثوب البهي الجديد، الملكية
لا يلبسني «يناسبني» بسهولة كما تتصوّرون
أيها الأخوة، إمزجوا حزنكم ببعض الخوف
هذا هو البلاط الإنكليزي وليس البلاط التركي
ولا يتتابع سلطان مراد بعد سلطان مراد
بل هنري إثر هنري».
وتقول المس بل إلى اللورد كرومر في مقدمتها أنه، في البلاد التي تصفها في الكتاب، العكس هو الصحيح. فغازٍ يأتي في أعقاب غازٍ، ويُطاح بأمم وتُهدم مدن وتُسوّى بالتراب. لكن أساليب الحياة وشروطها لا تتغيّر وتكيّف «تصوغ»، بشكل لا يقاوم، العصرَ الجديد على مثال القديم، وسلطان «مراد» يتبع سلطان وتعاد القصة ثانية.
ومن هنا جاءت التسمية أمورات تلو أمورات «من مراد إلى مراد» أي رتابة تتابع الحكام.
وهكذا نجد أن عنوان الكتاب «أمورات إلى أمورات» هو اقتباس غير مباشر من مسرحية لشكسبير، لا يفهمها إلاّ الراسخون في العلم والأدب الإنكليزي واصطلاحاته، وأنا للأسف لستُ منهم، ولو لم أستفسر عنها لما أمكنني التوصل إلى فهمها.
ويعلمني البروفسور ماكولوك في ختام رسالته أن الملكة إليزابيت الثانية قد منحته، لقاء أعماله وسِفره الرائع «تاريخ المسيحية» «1161 صفحة»، لقب «فارس» في قصر وندسور في آذار الماضي 2012، وهذا مثار سرور كبير وشرف له. وأنها، أي الملكة، وهي في الخامسة والثمانين من العمر، تترأس شخصياً أمثال هذه الاحتفالات؛ تقف مدة ساعة كاملة لوحدها وبدون مساعدة، وتفكّر بما ستقوله، ولو بضعة كلمات خاصة، لكل فرد من المكرّمين وعددهم 75 شخصاً نالوا ألقاب الفروسية أو مداليات التكريم.
المراجع
الصحراء والأرض الخصبة غرترود بل، لندن 1907
أمورات إلى أمورات غرترود بل، لندن 1911