اجتماعية أو سياسية. إن ذلك النزوع الجامح الذي يخلق الفن هو حالة كامنة في أعماق الكائن البشري، ولعل الفنان وحده هو من يستطيع استثمارها وترجمتها وإظهارها بشكل عملي من خلال الإبداع. إنه الجوع، نعم إن ذلك النزوع هو في جوهره جوع للجمال كما قال الناقد ريموند تالس في دراسته الشهيرة التي أعلن فيها أن الإنسان محكوم بجوع دائم للفن والجمال. ولعل الجوع عندما يصل إلى حدوده النهائية يصبح طاقة هائلة باتجاه الفعل. وهكذا فالجوع للجمال هو جوهر الفن.
ولنتذكر هنا ما قاله نيتشه: إن الحياة بدون موسيقى ستكون مجرد خطأ.. إن فيلسوفاً عظيماً مثل نيتشه يضعنا أمام هذه العبارة المؤثرة لأنه كفيلسوف يمتلك معرفة مطلقة بجوهرية الفن في حياة البشر. هذه الحياة المحكومة بشرط الزوال لا بد لها من فعالية أو نشاط يمكن من خلاله إعادة إنتاجها بشكل يمتلك صلابة ما، وجوداً محدداً قابل للتأمل وقادر على إنتاج معنى ما. إن البشر يخافون الموت ولكنهم ينسونه دائماً، فنسيان أن الموت هو شرط للعيش. إننا نعيش أيامنا بإيقاع يتجاهل أن الموت احتمال في كل لحظة وأن الحياة في حقيقتها حدث قصير وخاطف يشبه ومضة لا تتكرر. ولعل نسيان البشر وتجاهلهم لهذه الحقيقة يجعلهم غير قادرين على قراءة وتأمل حيواتهم كسرديات مكتملة ذات معنى أو كأشكال تمتلك استقلاليتها وألوانها الخاصة. إن الفن وحده يمنح الإنسان القدرة على فعل ذلك، على اجتياز المسافة التي تمنح قدرة أكبر على الرؤية والاكتشاف.
إن الفن يعطي التجربة الفردية المعزولة بعداً إنسانياً وكونياً بحيث تتحول لوحة ما لبيكاسو أو فان غوخ قطعة غير هشة من الحياة. إن رواية لغابرييل غارسيا ماركيز ستجعلنا قادرين على لمس الحياة في أمريكا اللاتينية ومسرحية لصموئيل بيكيت ستجعلنا نرى الذعر والضياع الإنساني بشكل أكثر عمقاً ووضوحاً من أي وثيقة أو ذكريات فردية معزولة لم يمنحها الفن شكل الخلود. ولعل العامل الحاسم في كون الفن قادر على منحنا ما لا تستطيع تجربة العيش منحه هو الجمال. إن الفن كما يقول تالس قادر على التعبير عن أكثر التجارب قسوة وألماً وبشاعة من خلال الجمال، وهذا ما يجعله مختلفاً عن حياتنا.
من المؤكد أن مفهوم الجميل في الفن لا يتطابق بالضرورة مع قواعد وأعراف اللياقة والسلوكيات الاجتماعية والمواضعات الأخلاقية، ولذلك فإن تلك الشخصيات الروائية والمسرحية تثيرنا وتخلق معنا حواراً معقداً لا يقبل قرارات الرفض والقبول. نحن نستطيع أن نرى العالم ونكتشف الوجود الإنساني من خلال عيون شخصيات روائية ومسرحية نرفضها من الناحية الأخلاقية لكننا نقبلها جمالياً، وربما كان هذا أحد أهم خصائص الأدب. إن قدرة تلك الشخصيات المعذبة بتناقضاتها وتشوهاتها على كشف أكثر المناطق غموضاً وسرية في أنفسنا وفي تجاربنا يجعل منها كائنات تنتمي إلى العالم الذي نعيش فيه وهي بذلك تشبهنا بطريقة أو بأخرى.
لكن ذلك التحول في النظر إلى الشخصية الأدبية كما يرصده العديد من النقاد في أوربا وأمريكا ينذر كما يقول الناقد البريطاني جيمس وود بتنازل أخلاقي تجاه متطلبات الجاذبية، تنازل من قبل الروائي عن دوره في أن يكون صادماً ومغايراً للثقافة السائدة. ولعل في العنوان الذي اختاره جون لوكاس لمقالته في الغارديان اللندنية «ليس على الرواية أن تكون لطيفة» ما يعبر عن أبعاد تلك النزعة الجديدة نحو تسطيح الشخصيات الروائية عبر تحويلها إلى نماذج تتواطأ مع معايير ثقافة صناعة الترفيه المعاصرة. ففي هذا السياق انتبه بعض المتابعين إلى أسباب تلك النزعة الثقافية.
لقد أدى التطور الاقتصادي الكبير في الدول المتقدمة إلى تكريس نمط من الحياة المرفهة التي كادت تنعزل عن تناقضات العالم ومشاكله وساهمت وسائل الاعلام الجماهيري في تكريس حالة من الاغتراب عن الواقع دفعت الانسان نحو تعميم ثقافة الاستهلاك والحياة السهلة على عادات القراءة لديه. فإذا كانت الحياة سهلة ومريحة كما تظهر على شاشات التلفزيون، فما الذي يجذب القارئ إلى نماذج وشخصيات روائية معذبة وغارقة في التناقضات والتشوهات والأزمات؟!
يثير هذا الموضوع في الحقيقة تساؤلاً هاماً حول واقع الأدب المعاصر ليس في أوروبا وأمريكا فقط، بل في جميع أنحاء العالم. يبدو أن الأدب في واقع عولمة ثقافة الاستهلاك يواجه أكثر من أي وقت مضى مسؤولية تحدي ومغايرة الثقافة الإعلامية ومواجهة منظومة القيم والجماليات التي تنتجها وتسوقها صناعة الترفيه التي كادت تتحول إلى قوة كونية شمولية. فالأديب يواجه اليوم تحدي ألا يتنازل عن العمق والجرأة في رسم شخصياته وألا يكتب روايات أو مسرحيات «لطيفة» بل أن يكتب أعمالاً جميلة تدهش وتستفز مخيلة القارئ وتدفعه إلى التحديق في العالم بعيون شخصيات تشبهه لا تخلو من الأزمات والتشوهات والتناقضات وفيها كل ما هو إنساني قبحاً أو جمالاً.
إن الفن شكل من أشكال المعرفة والتعبير قادر على طرح الأسئلة حول وجودنا ومعنى تجاربنا وملامح إنسانيتنا. يسمي ميلان كونديرا الأدب بالتاريخ الموازي، حيث يمكننا من خلال الرواية مقاربة كل أبعاد الوجود من مغامرة الطبيعة إلى الحياة السرية لأحاسيسنا إلى دور الأساطير والخرافة في حياتنا. وبهذا المعنى يمكن للأدب أن يمنحنا القدرة على التفكير بعناصر لا يمكننا تجربتها في أي مكان آخر. إنه يمكننا، كما قالت فرجينيا وولف، أن نتعلم من خلال الإحساس.
إن أثر قراءة الأدب على الفرد هو بالتأكيد غير قابل للتحديد الدقيق أو للتصنيف العلمي. ليس هناك دروس أخلاقية مباشرة. وهنا بالضبط تكمن مغامرة القراءة وجماليتها. وكما يقول ميلان كونديرا: «أن ترى العالم كغموض، ألا تواجه حقيقة واحدة بل فضاء من الحقائق المتعددة والمتناقضة، أن تفعل ذلك كله فأنت بحاجة إلى شجاعة كبيرة..». الأدب لا يوفر لنا قوانين وقواعد لحياتنا، لكنه يمنحنا إطار أوسع من المرجعية ويمكننا من التفكير بشكل أعمق.