تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


عناقيد الزبد.. وفيض المعنى

ثقافة
الأربعاء 16-5-2012
متابعة: لمى يوسف

تضج الدلالات الصوفية في قصائد الشاعر وفيق سليطين، وتدخل إيحاءات مفرداته إلى عالم الجمال، فيخلق تركيباً لغوياً بعيداً عن المألوف، متماهياً مع اللغة الشعرية الحديثة، متلاطماً مع أمواج الواقع.

ضمن النشاط الأدبي لكلية الآداب بجامعة تشرين.. نسجت د. لطفية برهم أستاذة النقد الحديث، قراءتها الأولية للسلسلة الشعرية 12 «عناقيد الزبد» للشاعر والناقد سليطين الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب.‏‏

تقول: ينتمي « وفيق سليطين « إلى جيل شعريّ راهن في تأسيس حداثته على تجديد اللغة وتفجيرها لخلق لغة شعرية تخييلية، لها بصمتها الخاصة، محققاً لكل مجموعة شعرية هوية، ومفاتيح جديدة، يبنيها المخزون اللغويّ والثقافي نفسه، لكن عبر كتابة بأساليب مختلفة، بانتقاله من أسلوب إلى آخر.‏‏

انطلاقاً من أنّ هناك عاملاً ثابتاً لايتغيّر، هو أنّ الشعر يعبّر، دوماً عن المفاهيم والأشياء بشكل غير مباشر؛ أي بلغة شعرية استمدت خصوصيتها وتفرّدها من طبيعة العلاقات الداخلية الناظمة، أو أنّ الشعر يقول شيئاً ويعني شيئاً آخر، فإننا نحدّد مسار هذا البحث بالكشف عن طرائق تضمّن النص الشعري للمعنى، لتقديم وصف واضح ومتماسك لبنية المعنى في مجموعة « عناقيد الزبد».‏‏

مضيفة: تسهم القراءة الأولى؛ القراءة الاستكشافية في التفسير الأولي للمعنى؛ لتحدد الهموم التي شغل بها الشاعر بالوجود والعدم، الفنّ والوجود، الشعر والتراث، الحب والمعرفة، الذات والآخر..، وهي محاور ليست بطبيعتها متفارقة، ومنفصلة، بل هي متواشجة، ومترابطة، أعمق الترابط، للكشف عن الجوهر الكامن في الأشياء وعن الثابت في المتغيّر.‏‏

طرائق بناء المعنى‏‏

تكمن قوة هذه المجموعة الشعرية في أنها تشتغل على لغة انبثاقية توسّع أفق الوجود، وتكشف عن مكنوناته عبر تقانات فنية أهمها:‏‏

- التكثيف: وتستكمل د. لطفية قراءتها قائلة: تتميز المجموعة بأنها تعتمد على اقتصاد في الدوالّ، وغنى لا متناه في المدلولات؛ لتشكيل بنية دلالية، تنفتح على إمكانات ثرّة من التفسير والتأويل، فتحفزّ ذهن القارئ، وتثيره؛ ليتفاعل مع النصّ ويتحاور معه حواراً تأملياً؛ وبذلك تكون المجموعة، بوصفها نصّاً شبكة دلالية متلاحمة من حيث البنية،ومفتوحة من حيث إمكانات الدلالة، بدءاً من العنوان «عناقيد الزبد» الذي يعبر عن هذا التعديل المتواصل لمبدأ المحاكاة، فإذا كان الزبد، يعني لغوياً، الرغوة، وإذا كان العنقود يحيل على ما تعقّد وتراكم من ثمره في أصل واحد، فإن تركيب «عناقيد الزبد» تركيب إضافي، ضمّ عنصراً لآخر؛ ليتقوى كلّ منهما بالآخر، بقصد التخصيص والتعريف، وإفادة القوة والمتانة من خلال اجتماع الوحدتين اللتين تعدّان توسعه في القول من الشاعر لتوسيع أثره في القارئ.‏‏

إن الدلالة الوجودية لهذا التركيب تظهر بصورة أوضح من ملاحظتنا أنّ الزبد مع أنه خالٍ من القيمة، ومع أنه فراغ تام إلا أنه زبد مملوء بفيض المعنى، للذهاب بنا إلى ما وراء عالم الظواهر، ووصلنا بالأشياء المستسرّة، ليقول أكثر مما يقول؛ وبذلك يصبح التركيب عناصر دالة في شبكة أخرى من العلاقات، لغتها كما يراها الشاعر في قصيدة بعنوان «خلوات»:‏‏

لغةٌ تطوي.. وتمحو..‏‏

لغة تومضُ في هذا السديمْ‏‏

إنّ قول «إزرا باوند» (إنّ كل كلمة مشحونة بالمعنى) يسم المجموعة الشعرية، ويعزّز تكثيف المعاني، أو بتعبير أدقّ يعزّز تكثيف مدلول معانيها؛ لأن كلمات المجموعة توحي بأنها تعني شيئاً «أكثر» من مجرد معناها العادي..فـ «جثّة الضوء» في قول الشاعر:‏‏

أخذته الرؤى من جفاف‏‏

الكلام المضاء ومن جثة الضوء..‏‏

ليست مجرد تناقض في الضوء، و»حبل سرّ القصيدة» ليس حبل سرّ، ولا القصيدة، بل هو كل هذه الأمور معاً، وشيء أكبر منها بكثير، فالكلمات مشحونة في سياقها بنوع خاص من المعنى؛ معنى يُشقّ طريقة مباشرة إلى ما نسميه القلب، بوصفه مصدر المعرفة الذي يأخذ المعاني حيّة كاملة.‏‏

فالدوالَ في بنية النص الشعري تحمل إشارات معرفية، ينكشف الغطاء عن مدلولاتها بالتأمل، والتفكير، والتفكّر بوصفه فعلاً حركياً، حرّاً، فاعلاً، ونشيطاً.‏‏

- الصورة الشعرية: تتميز المجموعة بالصورة الشعرية المركّزة،التي تستقطب الدلالات، وتنظمها، وتوزّعها بقدر ما تكثفها وتنشرها في مستويات النص المتعددة. ولقد استمدت الصورة هذا التميز من أمرين مهمين: أولهما طبيعة العلاقات الداخلية الناظمة للصورة، وثانيهما: التفاعل بين طرفيها؛ إذ يقوم نظام العلاقات على الجمع بين عنصرين لاينتميان إلى حقل دلالي واحد، بل ينتميان إلى حقلين دلاليين مختلفين؛ ليشكّلا صورة جديدة، تقوم في الأساس، على حركة حدّي الصورة الواحد في اتجاه الآخر في فعل جذبٍ ونقضٍ، يبرز خصوصية الصورة، وتفردها، وخصبها المشعّ، الذي يحيل على خيال حرّ، يحدّده «كولردج» بالقوة السحرية المؤلفة التي يملكها الشاعر الأصيل والتي تبدع الصورة الشعرية المؤسّسة على الثنائيات الضدية وتجاور الأضداد، ومما يلفت النظر في المجموعة أن الفكرة في بعض الأحيان تتحول إلى صورة، وأن الصورة تتحول إلى إيقاع، تتجاوب أصداؤه في ذهن القارئ؛ لتحرك التراكم المعرفي، وتحفز المشاعر الكامنة؛ وبذلك يكون النص الإبداعي عند شاعرنا نصاً يثير السؤال المعرفي، من ذلك أسئلة الوجود، ومساءلة الذات في تطوافها عبر مدارات الكينونة، ومحاولة ولوج عالمها بحثاً عن الجوهر الضائع.‏‏

- التناص: وتابعت: تحيل قراءة المجموعة على ثقافة متميزة مكّنت الشاعر من بناء نصه الشعري، من ذلك على سبيل الذكر لا الحصر، التتار، سندباد، الغزالي، يوسف، أدونيس، يقول الشاعر موظفاً التراث الديني:‏‏

أنا عاصر الخمر.. أولمت للطير..‏‏

نبّأت يوسف.. والجُبَّ..‏‏

والسنبلات.. أيوسف أعرض..‏‏

أنا العاصرُ الآن في مهجتي‏‏

وكتابي ولست نبياً‏‏

- (أنا، الآخر) (الذاتية والموضوعية): تمتزج (أنا) الشاعر بآخر ليس فرداً، بل بآخر هو: أنت، وهو، ونحن؛ آخر منفتح على ممكنات آتية؛ آخر يتجدّد باستمرار، ويتحوّل باستمرار، وينعقد هذا الامتزاج بين (أنا) الشاعر، و(أنا) الآخر بأساليب متنوعة؛ وبذلك تبدو الذات بؤرة جامعة للذوات كلها، لا بؤرة واحدة.‏‏

وحسب رأي د. برهم: في هذه الكتابة الجديدة، يكونُ الشعر انتهاكاً، يتجاوز تشويش الحواس إلى تشويش العقول والأفكار تشويشاً مرتبطاً بوعي الذات المشروط بوعي الواقع، وبوعي تاريخه الحضاري، وبالتحديد كل ما يتصل بالإبداع والاتباع، بالذات والآخر..‏‏

يكمن الشرط الأول للقيام بهذا الانتهاك في الحرية: نقداً وكشفاً وتعبيراً؛ الحرية- الحركة المتواصلة، التي لا تتخطى حدود الخارج فقط، بل تتخطى، أيضاً، نفسها باستمرار: تعيد النظر في ما أنجزته، مُستفيدة دائماً من تكامل حقلي الإبداع والنقد تكاملاً يفضي إلى الآلية التي تمكّن من توليد هذه النصوص، وغيرها من النصوص في المستقبل.‏‏

يجب أن تفهم الذاتية في المجموعة، إذن، بوصفها الصيغة الوحيدة للخروج على ثقافة الاستهلاك، وهي لا تعني خروجاً على الجماعة، بل على العكس، تتضمّن الحوار معها؛ لتجاوز طاقة الاستهلاك فيها وتأكيد طاقة الانتهاك؛ طاقة الحرية، والتجديد، والتقدم، وهذا يعني أنّ التشديد على الذاتية هو تشديد على الحرية نفسها، وعلى التحرّر من كلّ ما يقيدّه، ويقيّد المجتمع الذي ينتمي إليه؛ وبذلك يفتح الشعر أفقاً للفكر والتأمل إنسانياً وجمالياً.‏‏

- منابع شعرية: وختمت أستاذة النقد الحديث حديثها عن منابع التجربة الشعرية: (التراث العربي العام، التراث الصوفي الخاص، التقاطع العالمي).‏‏

فالتراث الصوفي حاضر فقد تميّزت المجموعة بحضور نفس صوفي يجلّيه تَردّد واضح لمعجم الصوفية، يمتحه الشاعر من شعر التصوف: آية، الحيرة، التيه، الجبّة، الحجر، وهو معجم له حضورٌ فعّال في التجربة الشعرية؛ إذ يبقى في الروح فراغ الوحدة، وتكتمل الوحدة « في حبّة رمل لايحدّدها شيء، ومع ذلك لاتنتهي النهاية ولايتوقف في العدم العدم».‏‏

رسمتُ خطوطاً.. فراغاً..‏‏

محوت الوجوه التي أتعرّف‏‏

أطوي.. محوت..‏‏

وتهتُ مع الرمل‏‏

أفتحُ في كلّ ذرّة.. مدى أو مجرّة‏‏

عدوتُ.. وتهتُ.. كما الرمل صرتُ‏‏

ذروتُ الذي يتشكّل.. أو أتشكّل‏‏

بعثرتُ هذي الصُّورْ‏‏

ورسمتُ الغياب الأجلّ‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية