وانطلق فــي فضاء الحــريـة والمدنية وحقوق الإنســان فــي دولة انفصلت عــن الدين وحررت العقل الفرنـسي مــن قيوده التي خنقت فيه الإبداع وعطلت طــاقات الفكــر والاختراع والبحث والارتقـــاء نحو الحداثة، منذ أن اختفت قامـــة الجنرال ديغول عـــن مســـرح النهضة السياســية الفرنــسية، وانزوى مع قبعته ونياشينه فــــي حـــي باريــسي قديـــم، منذ ذلك الوقت والفرنسيون يتعثرون تدريجيا فـــي خياراتهم يمينا ويســارا، فيذهبون إلى صناديق الاقتراع في الصباح لاستيلاد قامة كبيرة من رحـــــم ديمقراطيتهم، ثم لا يلبثون أن يكتشفوا في المســـاء أن المولود الجديد بعيد الشبه عن جنرالهم الذي غاب بعد أن عبر من تحت قوس النصر فــي جادة الشانزيليزيه، نحو بناء حجر الأساس لفرنسا الحرة رغم أنف النازية، صار رؤساء فرنـسا منذ ذلك الوقت مجرد رجال سلطة يجربون حظهم في دفع القاطرة الفرنسية نحو الأمام ونادراً مــا يفوزون، إذا ما استثنينا طموح فاليري جيسكار ديستان، ووقار فرانسوا ميتران في إرساء دور فرنسا في المحيط الأوروبي والدولي!.
حدث ذلك لفرنسا والفرنسيين منذ أن ظهرت في السياسة الفرنسية علة الالتحـــاق الأعمى بالســياسة الأميركية، ونــزوع صــاحــب الاليزيه لــرهن القرار الفرنــسي بيد رجـالات البيت الأبيض، والنزعة الإمبراطورية التي طبعت سياسات واشنطن في العقود الأخيرة، الأمـر الذي جعل مــن الاليزيه والمتعاقبين على مكتبه الرئــاسي فرعــاً أوروبياً للخـارجية الأميركية التي أطلقت في العالم منذ مطلع هذا القرن نظرية الحرب الاستباقية، التي جددت شباب الاســـتعمار القديم ولكن هذه المرة بحصان من تكســاس وقبعة كاوبوي مـــن شيكاغو لا يجهلها أحــد فـــي الأرض، وإذا كنا في وقت مـــن الأوقــــات وتحديدا فـي مطلع عام 2003كدنا نعتقد أن فرنسا بدأت باســترداد قرارها من القبضة الأميركية، عندما ضرب دومنيك دوفيلبان الشاعر ووزيــر الخارجية الفرنسية وقت ذاك على طاولة مجلس الأمن عشية الغزو الأميركي للعـــراق رافضاً الذرائــع الملفقة التي أطلقها كولن بــاول نــاظر الخارجية الأميركية يومــها، لتبــرير الغـــزو وتشريعه، فإننا لـــم نلبث أن عثرنا على جـــاك شيراك مختلياً بجورج دبليو بوش على ضفاف النورماندي مستسمحاً من طيش دوفيلبان، وقصر نظر السياسة الفرنسية التي عارضت الغزو، وباسطاً كفه لجليسه لإبرام صفقة استكمال رحلة الغزو نحو سورية وفق خطة وبرنامج زمني يعيدان للتحالف الفرنسي – الأميركي مجده الغابر!.
في السنوات الخمــس الفائتة، وفي العهد الرئــاسي الآفــل لنيكولاي ساركوزي، تحـــولت التبعية الفرنسية لـواشنطن إلــى فضيحة، قام بهندســتها رجــل لا تنقصه الفضائح، فبعد أن نقل ساركوزي كل مفاتيح السياسة الخارجية الفرنسية من وزارة الخارجية إلى مســتشاريه العاملين فــي مكتبه الرئاسي، وعقد حلفاً مـــع توني بلير، ثــم مــع خلفه الجديد كاميرون، وتــأبط ذراع المســتشارة الألمانية انجيلا ميركل، بعد ذلك وقبله تطوع ســـــاركوزي جندياً أميناً في الحرس الإمبراطوري الأميركي، يســير فـــي مقدمته رافعاً حــربته فــي وجــه كـــل مــن ينغص على الأميركيين ســـلامة خططهم ومشــاريعهم على هذه اليابــسة، ولكي يثبت للمــكتب البيضــاوي وصاحبه في واشنطن أنه من أوفى الأوفياء، ومن أسبق السباقين إلــى افتتاح الحروب الوقائية، كان أول من ســدد ضربته الأولـــى على الليبيين في صحرائهم الحارقة، انتصارا «لثورتهم» على حد زعمه، وانســـجامـــا مــــع الرؤية الاستراتيجية لبرنار هنري ليفي المنظر الصهيوني العتيد، الذي يـــخطــب «الثــوار» العـــرب وده هذه الأيـــام ، بــاعتباره شــفيعهم عند حلف الناتو صاحب اليد الطولى في تقرير مصائر الشعوب العربية في هذا الزمن الرديء !
أمس غادر ساركوزي الاليزيه، ربما إلى ردهات المحــاكــم التي تنتظره فيها دعاوى لـن ينجو من أحكام قضائها، وأمس دخل إلى الاليزيه فرانسوا هولاند القادم من الـــرحم الاشتراكي الفرنسي، فهل هو مجرد اســم جديد على اللائحة الرئــاســية التي لم تضف لفرنسا وللفرنسيين شيئاً غير المذلة والتبعية، أم إنه مشروع قامة عالية سوف تبدد وحشة الاليزيه، وتعيد اســتقلال قراره المفقود!.