ولنقل ديوانا تجاوزا وذلك لأن ما فيه من قصائد قليلة لا تجعله بحجم الدواوين التي كانت تصدر آنئذ,
ولكن قصيدة واحدة من هذا الابداع بين دفتي الكتاب تفتح آفاقا واحلاما تعادل مئات الدواوين, بل يكاد يقول ا لمرء : ان هذا الشعر المصفى: روحا ومعنى وشكلا, وهو ليس خارجا من اتون اللغة, بل من جحيم قلب, جحيم الدفء المعذب بمحبة الانسانية, نعم عن الرصيف اقتنيت ديوان (مع الريح) الصادر عن وزارة الثقافة عام 1968 وكان سعر النسخة 225 ق.س ولكن البائع الذي يعرف قيمة الديوان كان رحيما ولم يطلب الثمن الباهظ ا ذ لم يتجاوز حدود المئة ليرة.. فرحتي بهذا الديوان المترف شعرا وشكلا لا تعادلها فرحة, وكلما شعرت بشوق الى العودة الى شاعر أوشعر طهر النفس الانسانية بروح الابداع عدت الى هذا الشاعر الذي بدا حزينا حزنا انسانيا لا يمكن ان يسمو الحزن او ان يشف اكثر من ذلك .
عبد السلام عيون السود, وعبد الباسط الصوفي, ووصفي قرنفلي, وغيرهم من الشعراء لم يعطوا حقهم في القراءة والدراسة ولم ينالوا الا عددا محددا من الدراسات النقدية, وهنا يجدر بنا ان نوجه الشكر الى الاستاذ الشاعر ممدوح السكاف الذي توقف عند هؤلاء كثيرا و نشر عنهم في الصحف المحلية لتشرين, وله الشكر كل الشكر على هذا الوفاء الذي عهدناه اهلا له , وهذا الوفاء وفاءان, وفاء المبدع للمبدعين, ووفاء المبدع للقراء اذ يضع بين ايديهم ثمرات يانعة تشكل زادا ثقافيا لمن يريد.
محطات في حياة الشاعر
عبد السلام عيون السود, من الشعراء ذوي العمر القصير فهم كالورود التي ما تكاد تتفتح حتى تطبق تويجاتها وتعلن الرحيل لكن عطرها باق, شعراء مروا في حياتنا بسرعة الشهب لكنهم تركوا الاثر ا لذي لا يمحى,ومن هؤلاء ابو القاسم الشابي, وعبد الباسط الصوفي وعبد السلام عيون السود.
ولد الشاعر عام ,1922 بعد الدراسة الابتدائية التحق طالبا في الكلية الشرعية بحلب.
- عمل موظفا في الانتاج الزراعي ثم في وزارة المالية
-تزوج في بدء شبابه, ومات عن ثلاثة اولاد.
-اصيب بمرض التوسع الاكليلي في القلب واكتشفه في مراحله الاخيرة قبل وفاته بسنوات ثلاث مما جعل شفاءه مستحيلا.
بدأ كتابة الشعر في العشرين من عمره , كان تقليديا في بدايته ثم اصبح ذا مدرسة متميزة توفى في عام 1954 وكان في الثانية والثلاثين من عمره.
امتاز شعره ب¯: صفاء اللفظة, روعة الموسيقا, عمق الاحساس وحدته, هذه هي المعلومات التي تضمنها ديوانه لا تكاد تملأ صفحة, وربما كان معد الآثار او الديوان على حق في الاختزال وكأنه يريد ان يقول: امامكم شعر وشعور امامكم, جرح ونزيف روح, لغة متوقدة لا تنطفىء مع الايام, جذوتها روح كل انسان معذب, ومبدعها آمن بالحب وبالانسانية عبد السلام عيون السود في صفحات آثاره وهي لا تتجاوز ال¯ 120 صفحة مزينة بأروع القصائد واللوحات , يدعونا لأن نعيد اكتشاف الحياة, الحب, الشعر, لإعادة احياء نبض الجمال في ابداع العرب الاول (الشعر) في قصائد الشاعر ثورة عارمة على كل شيء ثورة لا تأبه بالصعاب مهما كانت, وربما كانت قصيدته (صوت الحياة) الحياة نظمها الشاعر في مطلع حياته دليلا على ذلك:
هذي جراحي, لم تزل في القلب, تتسع اتساعا
ان الدموع معينة, أواه لو سحت تباعا
حتام آقتحم الظلام,معربدا, اشكو الزمان?
وإلام, ارقص كالذبيح , على صخور العنفوان..?
صوت الحياة بمسمعي,يهزني هزا عنيفا
أأجيبه بالليل? ام امضي فألتمس الرغيفا..?
وعلى ما يبدو ان قلق الشاعر لم يبدد في قصيدته السابقة التي نظمها عام 1942 م فاذا به يسأل عام 1947م وفي قصيدته: (اين) يسأل عن الدرب والحيرة لا تزال تسيطر عليه) :
اني اتجهت فليل .. يدور رعبا وذعرا
وقيل لوح افق استغفر التيه حشرا
لنحن ابعد مرمى لنحن اعمق غورا
على جبين الليالي سفحت روحي, شعرا
فأين يا اين ألقي عصاي? الريح ادرى??
وفي قصيدته الرائعة ( متعب) تزداد ملامح هذه الحيرة, تبدو ملامح وجراح الحياة وقد تركت اثرها عميقا في قلب ووجدان الشاعر فاذا به كالشعراء الرومانسيين كافة يرى ان هذا العالم ليس مكانه الاثير وان مافي هذه الحياة من صخب وجراح قد اثقل روحه وكسر احلامه
يقول ا لشاعر:
انا يا اخت متعب, وسلي الريح .. سليها, تجبك عن اعيائي
وانا انت في انفلات الاعاصير.. بدنياي وامتداد شقائي
شفني الدرب فارتميت على ا لدرب, مصيرا, معصبا بدمائي
انا, يا اخت, متعب, متعب مثلك, في حيرة وطول التواء
وبعيني, ما بعينك, من عمق مهاو
بعيدة وانطفاء
نلتقي, في الضياع في التيه في الاهات تترى وفي أكف الهواء
وانكسار الاحلام, في اللفتة الاولى, ونفح الحياة للاشلاء..
والحالة ذاتها تستمر في قصيدته لقاء التي يفتتحها ببيته الشهير:
انا يا صديقة مرهق حتى العياء فكيف انت ?
أسعى اليك مرنحا متقطع الخطوات مثقل
وبجعبتي مثل الرفيف, وفي شفاهي الشعر يسأل ..
نصف قرن على الرحيل
بعد نصف قرن على رحيل الشاعر عن هذا العالم, هل ثمة من يتذكره غير الذين آمنوا ان الابداع ليس بالكم الهائل من ركام الكلمات والمجلدات, عبد السلام عيون السود الشاعر المرهف يحتاج الى وقفة وفاء ولعل ابسط ما في الامر ان يعاد اصدار ديوانه الجميل (مع الريح), عن اتحاد الكتاب العرب او وزارة الثقافة, او اية جهة ما وكم نتمنى على استاذنا ممدوح السكاف ان يسعى الى ذلك مع من يهمه الامر , وأن يحمل الديوان مقدمة بقلم المبدع.
بقي ان نشير الى ان رأي عبد السلام عيون السود في الشعر والشعراء لا يزال يتقد ويزداد صدقا كشعره, وقد نشر هذا الرأي في نهاية ديوانه.