ما عليكم إلا بقراءة كتاب ناتان شارانسكي, فهو سيساعدكم على فهم الكثير من القرارات التي اتخذت او التي سوف تتخذ) هكذا اعترف الرئيس الاميركي جورج بوش في تصريح للواشنطن بوست, ويضيف في اعترافاته لنيويورك تايمز , إن هذا الكتاب يشكل عنصر (دي .ان .اي لرئاسته). ويعتبره ( قضية من اجل الديمقراطية) ومؤلفه هو احد المنشقين السوفييت الذين هاجروا الى اسرائيل, وشغل هناك منصب وزير في عهد ارييل شارون, وصور نفسه مدافعا عن نشر الديمقراطية في العالم الغربي كشرط لتوقيع سلام شامل في المنطقة,واحلال السلام في العالم. وفي سبيل بلوغ هذا الهدف, لم تأل الولايات المتحدة جهدا في خلط الاوضاع في منطقة الشرق الاوسط منذ عشرات السنين ( ايا كانت الاخطار المتربصة) حسب تعبير وزيرة الخارجية كونداليزارايس .
وتستعيد هذه الرؤية طروحات استشراقية تصور العالم العربي كخليط غير متجانس من الأقليات الدينية والعرقية, العاجزة عن العيش المشترك ضمن كيان موحد. وتستند الحلول المقترحة من اجل تحريك العملية الديمقراطية وضمان المصالح الاميركية في آن واحد, والتي تفترض ان تكون مترابطة مع بعضها البعض باحكام شديد على استخدام الجماعات الطائفية في المنطقة ضمن اطار استراتيجي اطلقوا عليه تسمية ( الفوضى الخلاقة ).
وتصوير العالم العربي ( الرجل المريض في القرن الواحد والعشرين ) والملهمين للرئيس بوش كشفوا عن املهم ان يلقى هذا العالم مصيرا مماثلا لمصير الرجل المريض في القرن التاسع عشر, اي الامبراطورية العثمانية, التي انهارت عقب الحرب العالمية الاولى .
ووصف شارانسكي السلام الذي جرى تعريفه كحركة ارهابية في جوهرها, كمهدد ليس لوجود اسرائيل فحسب, وانما ايضا لوجود الغرب بمجمله .
ولا يمكن ان يتم اجتثاث جذور الارهاب من خلال القيام بعمليات أمنية ضد هذه المنظمات,او قطع التمويل عنهم.
بل ينبغي العمل على الاسباب الاساسية العميقة (للارهاب), والذي هو (نتاج سياسات الانظمة العربية القمعية والفاسدة, وكذلك ثقافة الكره الذي ينشره على حد زعمه ).
وحسب اقوال هذا المنشق, تعتبر استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الاوسط, وكذلك الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية بريئين من اي تهم ضدهما .
وبذريعة توضيح الدور الغالب للعوامل الذاتية في اصل الارهاب, يذكر شارانسكي فلسطين .اذ حسب اعتقاده, فإن العنف المسلح ضد اسرائيل, وكذلك العمليات الاستشهادية تتم نتيجة عملية غسل دماغ تجرى عبر وسائل الاعلام وفي المدارس, اذ تعمل السلطة الفلسطينية على تحويل غضب الرأي العام من الفساد ومحاباة اقارب السلطة باتجاه اسرائيل .
شارانسكي بمجموعة من التلفيقات المطروحة من قبل انصار مقولة التنافر الجذري القائم بين الاسلام والديمقراطية, اي رفض الاسلام الفصل بين الدين والدولة, والحض على العنف والحرب ,الوضع المتخلف للمرأة ..الخ, وهذا ( المدافع عن الحرية) كان قد استقال من الحكومة احتجاجا على خطة الانسحاب من غزة .
ويدلي آخر بدلوه في هذا الشأن, وهو ريول مارك غيريتش, من المحافظين الجدد, والمختص بالشؤون العراقية والشيعية والباحث في معهد المؤسسة الاميركية, وكذلك احد المصادر الملهمة في هذا المجال فيقول ان ادارة الرئيس بوش صاغت مشروعها ( الشرق الاوسط الكبير) بالاستناد في جزء منه الى كتب تعود لمؤرخين كبار امثال برنار لويس من جامعة برينستون,وفؤاد عجمي من جامعة جون هوبكنز.
ويعتبر برنارلويس, المؤيد لاسرائيل احد الاختصاصيين الاميركيين الرواد, الذي نعى بعد حرب الخليج الاولى العالم العربي ككيان سياسي. ويقول : (قاتلت دول عربية دولة عربية اخرى ( العراق) ضمن تحالف غربي, اما منظمة التحرير الفلسطينية فقد جرى تهميشها من قبل المعارضين للحرب) .
وتم استبدال مصطلح (الشرق الاوسط) بدلا من مصطلح ( العالم العربي), مستجيبة بعد اربعة عشر عاما لتوصيات رفعها كل من لويس. وروبرت سالتوف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى ,والذي اسدى بنصيحة في مقال جاءت تحت صيغة رسالة موجهة الى السيدة كارين هوغس ,معاون وزير الخارجية للدبلوماسية العامة ,جاء فيها ( استبعاد مصطلح ( العالم العربي ) والعالم الاسلامي من قاموس الدبلوماسية الاميركية, دافعوا بما استطعتم عن معاملة كل بلد على حدة معاملة خاصة سواء بالقول او بالعمل, يريد الاسلاميون الراديكاليون إلغاء الحدود, وانشاء عالم اممي تفصل فيه الخطوط الديمقراطية ساح الاسلام ساح الحرب , لا تتنازلوا لهم عن الارضية , قبل جرهم للمعركة).
وبالنسبة لفؤاد عجمي, الضامن الفعلي لأنصار حزب الليكود والمحافظين الجدد في واشنطن,فهو البوق الاساسي للتحليل الذي يأخذ بالتقسيم المجتمعي الطائفي للواقع العربي, وفي آخر مقال صحفي كتبه حول تطورات الاوضاع على الساحة اللبنانية قال فيه (كان هذا البلد في الاساس, بلدا مسيحيا ) ويضيف قائلا (لدى العديد من اللبنانيين قناعة بفقدان الاحساس بالتعاطف ( العربي تجاه لبنان) مرده كون هذا البلد هو في غالبيته من المسيحيين, الى جانب بعض الطوائف الهرطقية, ولا يمكن ان تحكم على الاستراتيجية الاميركية بأنها ترجمة آلية وحرفية لوجهات النظر تلك, فثمة عوامل اخرى تتداخل في اعدادها.
ولكن وباعتراف من الرئيس بوش وبطانته, فإن تلك المفاهيم قدمت لهم نظرة شاملة وخطوطا توجيهية عريضة .
وقد دعا السيد ساتلوف هذه الاستراتيجية ( الفوضى الخلاقة ) واشار انه ( تاريخيا) كان البحث عن الاستقرار سمة مميزة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط, ويقول: تكافح الاستراتيجية الاميركية في مناطق اخرى من العالم من اجل استمرارية الاستقرار, ولكن الرئيس بوش ,كان اول رئيس يعتبر ان الاستقرار عائق امام تقدم المصالح الاميركية في الشرق الاوسط, وقد استخدمت واشنطن مجموعة اجراءات بدءا من استخدام القوة العسكرية لتغيير الانظمة في افغانستان وفي العراق, مرورا باتباع سياسة العصا والجزرة, حتى تم عزل ياسر عرفات قبل اغتياله , والتشجيع على انبثاق قيادة فلسطينية جديدة وسلمية ,لغاية التشجيع المرن لكل من مصر والسعودية للانخراط في طريق الاصلاحات.
وبعبارة اخرى , كان استخدام الوسائل القاسية مخصصا لاعداء الولايات المتحدة, والوسائل الرقيقة اللطيفة مخصصا لحلفائها . وفي السياق الاقليمي الحالي, يعتبر احتواء النفوذ الايراني في سلم اولويات الولايات المتحدة ,لكي تجعل من طهران اكثر تأثرا بالضغوط الدولية عليها, الهادفة الى جرها للتنازل عن مشروعها النووي, او على الاقل الحد من قدرتها على الرد في حال شن هجوم على منشآتها.
ويفترض هذا الاحتواء إجبار سورية, الدولة الحليفة لإيران في الشرق الاوسط, قطع تحالفها معها, وتجريد حزب الله من سلاحه . وامام الرفض السوري , المدفوع بشكل اساسي برفض اسرائيل استئناف المفاوضات لاسترجاع الجولان المحتل, انضمت واشنطن الى باريس لإصدار قرار من مجلس الامن الدولي برقم 1559 لعام ,2004يطالب سورية بسحب قواتها من لبنان ,ونزع سلاح المنظمات اللبنانية وغير اللبنانية,ونشر الجيش اللبناني في جنوب البلاد .
وشكل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري نقطة انطلاق لمظاهرات ضد السلطة اللبنانية ,والتواجد السوري في لبنان, يدعمها تكثيف الضغوط الدولية على البلدين .
وسلطت هذه التطورات والاحداث الضوء على طريقة جديدة في التدخل الدولي, وصفه جيل دورونسورو ( استراتيجية الفوضى الديمقراطية ).
وتركز هذه الاستراتيجية في الاستناد على قطاعات من المجتمع المدني, المطالب بإحداث التغيير, ودعم عملها من خلال حشد وسائل الاعلام المحلية والدولية لصالحها من اجل خلق بطل موحد للمعارضة,وتعزيز الضغط الدولي على السلطات موضع الجدل. وفي لبنان ,ادت هذه الاستراتيجية الى تأزيم الطوائف اللبنانية, وجعلتها الواحدة تقف ضد الاخرى, وفي بلدان اخرى من المنطقة المستهدفة ( بالفوضى الخلاقة ) فإن استخدام الطائفية موضوعة على جدول الاعمال واتخذت واشنطن قرارها,في الشأن السوري, زعزعة الاوضاع السورية, اذ , وكما اشار سالتوف , يتعين على الولايات المتحدة الاستناد على ثلاث اولويات من اجل الضغط على سورية, وزعزعة اوضاعها, وهي :
-جمع اكبر قدر ممكن من المعلومات حول الديناميكية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعرقية داخل سورية.
- خوض حملة حول مواضيع مثل الديمقراطية ( حقوق الانسان).
- عدم ترك اي منفذ تستعين به سورية, والضغط لطرد جميع المنظمات المعادية لاسرائيل من سورية, والتخلي عن العنف ,حسب تسميتهم ,اي ( الكفاح المسلح او المقاومة الوطنية ).
وقد أشعل ,في العراق, إعادة بناء نظام سياسي, على قاعدة التمثيلي الطائفي والاثني , تحت الاشراف الاميركي, التوترات بين مختلف اطياف المجتمع العراقي .
كما وان اجراء الانتخابات التشريعية في موعدها, رغم مقاطعة الاسلام السنة لها, لم تخفف من الهمة الاميركية في تزويد البلاد بحكومة ممثلة نسبيا, لها صلة استراتيجية طائفية, وضحها ريوول مارك غيرتيش في مقال نشره قبيل الانتخابات, قال فيه: (يتعين على رئيس الوزراء العراقي علاوي والاميركيين اظهار ان الشيعة سوف يصلون وان النخبة السنية امامها عام واحد للانضمام الى العراق الجديد).
وفي الوقت ذاته, يتعين عليه الى جانب الاميركيين التأكيد علنا, ان الجيش الجديد سوف يتشكل في اغلبيته من الشيعة والاكراد, لأن السنة لم يتركوا لهم خيارا آخر.
وعلى السنة ان يعلموا ,ويحسوا في داخلهم, انهم على وشك فقدان كل شيء في العراق. وقد فهم الرسالة الأغلبية العظمى من السنة في العراق, وهذا ما يفسر اشتداد بأس المقاومة المناهضة للاميركيين .
إن واشنطن, وعبر رغبتها في اللعب بورقة الطائفية , من اجل إضعاف الدول والقوى المعارضة لهيمنتها, وكذلك عبر فرض نفسها كمحرض وحكم لحرب اهلية فعلية في المنطقة, سوف ينتهي الامر بها الى تحرير آلية قوة نابذة ,يصعب عليها التحكم بها .