كما انكسرت محاولة تعويمه عبر تفاهمات مع الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا وألمانيا, بقصد إحلال نظام ثنائي القطبية بدل النظام الأحادي الذي استنفد قدراته على الاستمرار,ثنائية من ذات الطبيعة الاستعمارية والتطلعات الامبراطورية,غير أن المحاولة لم توفق وسرعان ما انعطبت بسبب المقاومات العربية والإسلامية,وبفاعلية نهوض الرأي العام العالمي وخاصة الأوروبي والدور الريادي للرأي العام الفرنسي,الذي عاقب شيراك والنخب الأوروبية المالكة والحاكمة وأسقط مشروع دستور الاتحاد الذي صيغ على قيم الليبرالية الأميركية وبما يجعل الاتحاد تابعاً سياسياً واقتصادياً وكذلك فعل الشعب الألماني بمعاقبة نخبته الحاكمة وإضعافها.
دائرة الفراغ تتسع بسبب تداعي المشروع الامبراطوري الأميركي والمشروع المشترك مع النخب الأوروبية, الأمر الذي من شأنه أن يطلق قوى وتحولات جديدة في البيئة الدولية تبدو آسيا متحفزة للعب دور, وتبدو الحركة الاجتماعية التحررية في أميركا اللاتينية والكاريبي قد قطعت شوطاً بينما تقع مهمة كسر المشروع الامبراطوري ومواجهته بالسياسة والسلاح على عاتق العرب والمسلمين, فهل يستطيعون الصعود لإملاء بعض الفراغ?
العرب والمسلمون وحركات الشعوب التحررية في قلب الحدث وفي أساس انكسار الحملة الامبراطورية الأميركية:
انكسار الهجمة الامبراطورية الأميركية التي استهدفت إعادة هيكلة العالم,لتأييد التفوق الأميركي لقرن قادم,ماكان ليكون إلا بفعل فاعل,وبجهد منظم,وبالكثير من الدماء,وقوة الإرادة والتصميم على المواجهة,والممانعة,هذه التي تجسدت في المنطقة العربية حصرا, وفي مشرقها بصورة مكثفة,الأمر الذي وفر الأسباب والعناصر الموضوعية لتسريع ولادة الظاهرات والتطورات التي كانت كامنة وتعتمل تحت السطح في مختلف قارات الكرة الأرضية وفي إرادة شعوب العالم,وقواه ودوله.
خسارة أميركا للحرب على الإرهاب تمت على يد قوى عربية,وفي بيئة عربية إسلامية لكون الإدارة الأميركية أرفقت الحرب على الإرهاب بالحرب على الأمة العربية والإسلام,وعلى المقاومات العربية حصرا,وركزت جهدها وقوتها الجبارة فوق الأرض العربية والإسلامية من منطلق القول إن السيطرة على المنطقة العربية والإسلامية وإعادة هيكلتها يشكل العنصر الحاسم في إعادة هيكلة العالم وتوازناته.
خسارة الحرب الاقتصادية والسيطرة على الجغرافيا الحاكمة عالمياً,وانكسار هيبة القوة العسكرية الأميركية واستنزافها واستنهاض رأي عالمي كاسح ضد الحرب والعدوانية,وتشكيل هيئات التضامن الدولية وتطوير حركة مقاومة العولمة والعولمة البديلة لتتحول إلى قوة شعبية دولية وازنة ومقررة في بلدانها وإداراتها ما كانت لتتحقق لولا المقاومة العربية وإبداعاتها وثمراتها الطيبة في لبنان وفلسطين والعراق,الناشئة على قاعدتها الثابتة سورية وإيران المنيعتين والقادرتين على تجديد نظامهما وثوابتهما وتصليب بنيتهما.
فشل التفاهمات الأوروبية- الأميركية وانكسار هجمتها التي استهدفت المنطقة كتمهيد لاستهداف آسيا وإعادة تنظيم النظام العالمي على أساس ثنائية قطبية متناسقة ومتفاعلة,كان الفعل فيه للمنطقة العربية ومقاومتها وثبات سورية وإيران,كما يعود إلى نهوض الرأي العام الأوروبي وبلوغه مرحلة متقدمة من الوعي والعصرية,والقدرة على محاسبة نخبه الحاكمة,ورفض الأمم الأوروبية لنموذج اتحادي ليبرالي سياسياًَ واقتصادياً يحقق مصالح النخب الحاكمة والمالكة المتحالفة مع أميركا والمقلدة لنموذجها وقيمها على حساب الشعوب الأوروبية وشعوب العالم.
عبثاً يحاول دعاة الإحباط والأمركة والأوربة العرب,من النظم والنخب,ترويج القيم والمشروعات الغربية, التي باتت مواجهتها محكومة بالسلاح وتقودها قوى المقاومة التي تبلي بلاء حسناً وتستنهض روح الأمة وقواها الحية, وتحفزها على التمرد ورفض الخنوع والتسليم بمنطق النظم الموالية للغرب,والقابلة بالإملاءات,والساعية إلى التآمر على شعوب المنطقة لتمرير مشروعات إسقاطها, فتبدو اللوحة العربية لوحتين, لوحة التنظيم المنهارة المستسلمة ولوحة الشعوب المتصاعدة تحركاتها الرافضة للغزوة الامبريالية وللنظم,الأمر الذي ادخل المنطقة برمتها في حقبة من التحولات والتغييرات,والأزمات,في مؤشرات قوية على نفاد المرحلة الماضية ودنو مرحلة مخاض ستنتج تغييرات حاسمة في البنى القائمة,يحفز على ذلك اشتعال جبهة مقاومة مسلحة وشعبية تمتد من الرباط إلى موسكو, في الوقت عينه يهتز استقرار دول, وتنهار قبضة نظم راسخة برغم حجم الدعم الأميركي والدولي لها, وتتحسس النخب الحاكمة رقابها وبعد تصاعد نذر الهزيمة الأميركية- البريطانية في العراق وأفغانستان,وتصاعد المطالبة بجدولة الانسحاب.
على وقع تلك التحولات وفي إشارات واضحة عن مستقبل أدوار ومواقع القوى الإقليمية ودورها تشير الوقائع إلى عودة سورية لاعباً نشطاً وبيئة حاضنة للقوى والقضية الفلسطينية,بعد فشل وتراجع أدوار دول وقوى أخرى, والعجز عن إجهاض الانتفاضة وسحب سلاحها, في الوقت الذي تلوح في الأفق القريب نذر انتفاضة فلسطينية ثالثة بعد الانسحاب -الهزيمة الإسرائيلية.من غزة وبعض الضفة واستمرار المقاومة اللبنانية على سلاحها في حالة هجومية, كما تشير الوقائع الحاسمة إلى أن إيران وسورية تتشكلان كبيئة وقوة إقليمية وازنة متوافقة على تمكين العراق من تجاوز محنته وإجهاض مخطط تفتيت وتقسيم المنطقة ودولها ودفعها لاحترابات طائفية ومذهبية عبر بوابات العراق ولبنان,تساهم في هذا الدور التوافقات السورية والسورية-الإيرانية مع تركيا الثابتة على خطاها في رفض الإملاءات الأميركية -الإسرائيلية.
في الأفق سيناريوهات واحتمالات لتطورات نوعية إيجابية من شأنها أن تعيد صياغة المنطقة العربية والبيئة الإقليمية في غير مصلحة المشروع الأميركي الأوروبي الصهيوني,فالمأزق الصهيوني يحفز على نهوض, والمأزق الأميركي يحفز على دور سوري- إيراني- تركي شعبي عربي وإسلامي لإملاء الفراغ بالتناغم مع الجاري في آسيا من حركات تمرد واسعة وما يجري في أميركا الجنوبية واللاتينية والكاريبي,وفي الرأي العام الأوروبي.
الخلاصات الأولية تفيد بدنو مرحلة تاريخية تأسيسية جديدة تتحفز للانعتاق من المراحل التاريخية السابقة السلبية ومثالبها,تنجز المرحلة الانتقالية بسرعة وبنتائج ملموسة مؤسسة لنهوض عربي وإسلامي متعدد الأوجه ومفتوح على آفاق واسعة, قاعدته الراهنة في مشروع المقاومة والثبات المتقن والمتحول إلى عنصر حاكم في تقرير مسارات التطورات في المنطقة وعلى المستويات العالمية, ومؤشراته تداعي وانكسار الهجمة الامبريالية بتجلياتها وأدواتها المختلفة, وخسارة أميركا لحروبها وسقوط استراتيجياتها ووسائلها وأدواتها السياسية والدبلوماسية والإعلامية والعسكرية,وما يفتحه ذلك من تغييرات في بنية النظم والمجتمعات العربية والإسلامية.
عليه يمكن الإجابة عن سؤال: لماذا استهدف المشروع الأميركي الفرنسي الإسرائيلي لبنان كمنصة لاستهداف سورية -إيران-فلسطين.
* كاتب لبناني