ونقول « على الأقل « لأننا نعرف بأن سورية شكلت تحدّياً أساسياً للسياسة الأمريكية منذ خمسينيات القرن الماضي . وهذا ما جاءت صحيفة « الواشنطن بوست « بعد ذلك لتؤكد عليه.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما هي ماهيّة هذا التحدّي ؟.
في الإجابة على هذا السؤال , فإن المدخل المنطقي يتمثل في التعرف على السياسة الأمريكية أولاً قبل أن نتحدث عن أيّ شكل من أشكال التحدّي الذي تواجهه هذه السياسة . أي أن نبدأ بالتعرف على الفعل قبل أن نتحدث عن ردّ الفعل , وإلا فإن فهمنا للأمور سيكون بحكم المبتور .
إن العنصر الأساسي في السياسة الأمريكية تجاه منطقتنا يتمثل في التبنّي الأميركي للمشروع الصهيوني اللامشروع . ونقول « المشروع الصهيوني « لأننا نعرف جيداً أن هذا المشروع اللامشروع بدأ بالهجرة اليهودية الى فلسطين بهدف الاستيطان تحت الرعاية الاستعمارية البريطانية والمساندة الأمريكية , ولم ينته بإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948 كما قد يتصوّر البعض , وإنما كانت إقامة الكيان خطوة من خطوات تنفيذ المشروع الصهيوني , أعقبته خطوات ومحاولات توسعية منها العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 , وعدوان حزيران عام 1967 , والحرب على لبنان ومحاولة التوسع على حسابه عام 1982 . وإذا كان العدو الصهيوني قد اضطرّ الى الانسحاب من سيناء وجزء من الجولان ومن جنوب لبنان ومن قطاع غزة تحت ضغط المقاومة العربية لعدوانه , فإن هذا لا يعني انكفاء المشروع الصهيوني , ولا تخلي السياسة الأمريكية عن دعم هذا المشروع , بل يعني أن السياسة الأمريكية معنية طوال الوقت بتمكين أصحاب هذا المشروع العدواني العنصري من الوصول الى غاياتهم وإضعاف قدرات العرب على التصدّي لهم .
ولأنّ مقاومة هذا المشروع انحصرت في نهاية المطاف في محور المقاومة , ولأن سورية باتت تمثل العمود الرئيسي الذي تقوم عليه خيمة المقاومة , فقد باتت السياسة الأمريكية ترى في تقويض الدولة السورية الخيار الأساسي لتمكين إسرائيل من تحقيق أطماعها التوسعية . وهي ترى بأن هذا الخيار هو الذي يجنّب الكيان الصهيوني خطر الانهيار . فالمعركة في نظر أميركا وإسرائيل إذاً هي المعركة التي تقرر مصير إسرائيل : إما التوسع أو الفناء . ولكنها بالنسبة لنا أيضاً هي المعركة التي تقرر مصير العرب . وعليه , فإن هذه المعركة ترقى الى مستوى المعركة المصيرية بالنسبة للطرفين .
في الواقع أننا حين نتحدث عن محور المقاومة كتعبير راهن عن إرادة الصمود والتصدّي , فإن هذا الحديث يجب ألا ينسينا الملامح الرئيسة التي طبعت مسار الصراع منذ خمسينيات القرن الماضي . وهنا علينا أن نتذكر بأن معركة الخمسينيات بدأت بمقارعة الأحلاف الاستعمارية التي أرادت أميركا من خلالها تطويع وضبط الإرادة العربية بما يمكنها من التحكم بقوة العرب وإرادتهم معاً , وبما يحول دون بناء القدرة العربية على التصدّي للتحدّي الصهيوني .
وفي غمار تلك المعركة , كان التوجه نحو الوحدة , وقيام الجمهورية العربية المتحدة , هو الخيار العربي المنطقي لتعزيز قدرة العرب على مواجهة التحدّي الذي يمثله المشروع الصهيوني , وكان التآمر على تلك الوحدة , والعمل على تقويضها , وصولاً الى جريمة الانفصال , هو الخيار الأميركي الصهيوني الذي جندت الرجعية العربية لتنفيذه .
وإذا كانت العلاقة بين مصر وسورية بشكل أساسي , وبين البعث وعبد الناصر كمعبّرين رئيسيين عن الخيار العربي القومي , مثلت في ذلك الحين محور تلمّس القوة العربية في مواجهة التحدّي , فعلينا أن نلحظ كيف أن اللحظة التي أعيد فيها الدفء والتواصل الى هذه العلاقة في أيار عام 1966 كانت هي اللحظة التي شهدت بدء التحضير الصهيوني – الامبريالي الرجعي لضرب سورية ومصر معاً , ومحاولة ضرب البعث وعبد الناصر معاً , وذلك في عدوان حزيران الذي ظهر تواطؤ أميركا مع إسرائيل في تدبيره وإدارته سافراً .
ورغم قسوة الضربة التي تلقاها العرب , فإنه ثبت بعد سنوات قليلة أنه انطبق عليهم المثل القائل بأن « الضربة التي لا تقتل تحيي « . وهكذا جاءت حرب تشرين لتشكل صدمة كبيرة للمشروع الصهيوني .
إن ذهاب الدبلوماسية الأمريكية بإدارة كيسنجر الى تطبيق سياسة الخطوة – خطوة لإخراج مصر السادات من الصراع , والانفراد بعد ذلك بسورية, مثل في الواقع محور السياسة الأمريكية تجاه منطقتنا منذ ذلك الحين . فكل ما شهدته المنطقة من أحداث وحروب وفتن إنما جاء في سياق تلك السياسة .
لو فكرنا في أن ننظر الى الأمور من الزاوية السورية تحديداً , ورصدنا تطورات الأحداث منذ العام 1970 وحتى الآن , فإن ذاكرتنا لا بد وأن تسترجع أموراً كادت معظمها تصل الآن الى مرحلة النسيان :
ألم يتشكل في وقت ما اتحاد عربي ضم مصر وسورية والسودان وليبيا ؟ .
ألم تكن حرب تشرين نتائج التكامل والتنسيق بين الجيشين المصري والسوري؟.
ألم يجر إشغال سورية من خلال إثارة الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 ؟.
ألم تستهدف إيران كقوة إقليمية صاعدة تساند سورية في صمودها بأشكال متعددة منها الحرب العراقية – الإيرانية ؟.
ألم يجر إشغال العراق في عهد صدام حسين بحروب في عدة اتجاهات ليتم الانقضاض الأمريكي عليه في نهاية المطاف ؟. ألم تؤخذ المقاومة الفلسطينية من لبنان الى المنافي , ومن المنافي الى قيود الحكم الذاتي في اتفاق أوسلو ؟. لنتذكر جيداً : أما كانت هناك اتفاقات تنسيق ثنائية شبه وحدوية على مستوى العلاقة بين الحكومات وخاصة بين سورية وكل من اليمن والسودان وتونس ؟ فأين آلت هذه الاتفاقات ؟.
أما كانت هناك جامعة عربية ينظر إليها كوعاء للتضامن بغض النظر عن مدى جديته ؟ فماذا حدث لهذه الجامعة ؟.
أما كان تفكيك الاتحاد السوفييتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي تحدياً قاسياً لسورية في مواجهتها للسياسة الأمريكية والتحدي الصهيوني ؟ .
إن سورية في الواقع هي واحدة من بين عدد قليل من دول العالم التي صمدت في مواجهة رياح العولمة الأمريكية . والواقع أنه ما كان لها من خيار سوى الصمود , لأن البديل عن الصمود هو تمكين المشروع الصهيوني من تحقيق غايته في التوسع من النيل الى الفرات .
لقد ولد محور المقاومة في الواقع كتعبير عن هذا الصمود . لكن هذا الصمود يجعل أطرافه ينظر إليها من قبل الأمريكي كأطراف مارقة , ومن قبل الصهيوني كعائق أمام هدف التوسع , أو كخطر على مستقبل الكيان .
إن تمسك سورية باستقلالها وسيادتها وصمودها في مواجهة السياسة الامبريالية الأمريكية هو في نظر الأمريكي مروق يستدعي العمل على تقويض سورية . ولكن لا أحد يستطيع الزعم بأن الأنظمة العربية الموالية لواشنطن في مأمن من خطر التقويض والتفتيت والاجتياح طالما أن المشروع الصهيوني يتطلب ذلك . إن إزاحة المقاوم تعني تقويض المساوم دون أن يكون بوسعه التصدّي لعملية التقويض . ولا حصانة للمستسلمين بسبب استسلامهم .
لقد باتت سورية الآن هي موضع الاستهداف الرئيسي بالنسبة لأميركا , وكانت كذلك منذ أكثر من نصف قرن من الزمن . وهذا بالضبط ما أقرّ به كيري . والسبب هو موقع سورية الجغرافي في مواجهة الكيان الصهيوني . وهذا يعني أن الأميركي بات يرى بأن استكمال تنفيذ المشروع الصهيوني هو الهدف الأساسي الذي تكرس أميركا جهدها لتحقيقه .