ويتدفق منها سيل من الأغاني والمسلسلات والبرامج المتنوعة والأخبار، وكم هائل من الرسائل الإعلامية، بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات أصبح العالم قرية كونية صغيرة قلصت المسافات وألغت الحواجز، حيث أتاحت التقنيات المتطورة بث أي حدث في أقاصي الأرض لحظة وقوعه.
التلفاز هذا الجهاز الساحر الذي ازدادت أهميته بالنسبة لنا كباراً وصغاراً مع مرور الوقت، ما أبعد الكثيرين عن المنابع الأساسية للثقافة وفي مقدمتها الكتاب، ويليها السينما والمسرح والأنشطة الثقافية.
تستهدف هذه المحطات جميع الشرائح، ولكنها تضع النشء والشباب في بؤرة اهتماماتها لعدة اعتبارات، منها أهمية هذه المرحلة في تكوين الشخصية والآراء والمواقف وتشكيل الوعي وخلق اتجاهات لدى الجيل تجاه قضايا حياتية متنوعة.
والأسئلة التي تطرح نفسها في خضم الزخم الإعلامي: ماذا عن تأثير المحطات الفضائية على المراهقين والشباب؟ وهل يعتمد البعض منها على «دس السم في الدسم»؟ وفي الوقت نفسه هل يمتلك الشباب القدرة على فرز الغث والسمين أم أنهم متلقون ومتأثرون ومنجذبون وراء بريق الصورة والترفيه والجمال المحول إلى سلع دون أي رفض لقيم استهلاكية باتت تتغلغل في علاقاتنا وأسلوب حياتنا؟
بالأرقام
يشير أحد التقارير العربية أن المحطات الفضائية العربية تستخدم عدة لغات يأتي في مقدمتها اللغة العربية بنسبة 74% «515 قناة» والانكليزية بنسبة 20% «142 قناة» والفرنسية بنسبة 2%، والهندية «14 قناة» والإسبانية «3 قنوات» والفارسية «قناتان» والعبرية « قناتان»، والأوردو «قناة واحدة»، والماليزية « قناة واحدة.
تراجع المكتوب لمصلحة المرئي
في ظل اختراق مايقارب /700/ محطة فضائية عربية للأثير، هل تراجع دور الصحافة المكتوبة، وانحسر دور الكتاب في الوطن العربي؟
يقول الكاتب الإعلامي حسن م يوسف: أعتقد أن المنافسة بين المكتوب والصورة البصرية أمر طبيعي، لكن الشيء غير الطبيعي هو عدم التوازن في المشهد الثقافي وفي ممارساتنا الثقافية، في كل بلدان العالم تتمتع الصورة بأهمية خاصة، لكن الكتاب لم يفقد أهميته، الشيء الذي يحدث في وطننا العربي يدعو للقلق الشديد، ففي الوقت الذي تعمم فيه المحطات الفضائية التفاهة والإسفاف، نجد أن الناس توقفوا عن القراءة، وهذا أمر يدعو للقلق الشديد، فحصّة الأمة العربية من الكتب المترجمة هي أقل من حصة بلدان صغيرة جداً، وحصة المواطن العربي من ورق الصحف تكاد أن تكون هي الأقل في العالم برمته.
بين نقيضين
من جهته يرى د. عيسى بشارة أستاذ الفلسفة أن الفضائيات العربية متنوعة، فتلك التي تقدم برامج جادة سواء للكبار أم للشباب لا ضرر منها بل تحمل في بثها المتنوع معلومات مفيدة، على عكس بعض الفضائيات التي تهدر الوقت وتتعمد إلهاء النشء، وخاصة الفضائيات الفنية التي تقدم «حوارات فنية، أغاني، برامج تسلية» هذه تلهي الجيل عن واجبه وتغرس قيماً ومبادئ أخرى غير التي على الشاب أن يتحلى بها، ويهتم بقضايا سطحية وضحلة ما يؤثر سلباً على سلوكه وعاداته، بينما المطلوب أن يهتم الشباب بقضايا جوهرية، وهموم عامة ويبتعد عن دائرة الأنا الضيقة.
وتبيّن د. لينا حبار الآثار الاجتماعية السلبية لطغيان المحطات الفضائية، فتمركز العائلة حول الشاشة الصغيرة أفقد العائلة التواصل والحوار وجلسات تناول الطعام الجماعية، ما أدى لتفكك الأسرة والدليل على ذلك وجود أكثر من جهاز تلفاز في المنزل لاختلاف الأذواق والاهتمامات.
وتضيف د. حبار: المحطات الفضائية خلقت عند الجيل ثقافة جديدة تختلف كل الاختلاف عن ثقافة الكتاب، وهذه الثقافة هي «ثقافة الفيديو كليب والمسابقات واللهو واللعب» ما أثر على وقت القراءة والأنشطة الاجتماعية، حيث أصبح كل فرد معزولاً عن الآخرين في عالمه الخاص رغم وجودهم في بيت واحد، الأمر الذي يعني أن هذه القنوات هي أحد العوامل التي أسهمت في تكريس عقليات منعزلة فاقدة التواصل فيما بينها أي صراع عقليات وليس تواصل عقليات، وهي لا تقوم بدورها السلبي في يوم وليلة بل على مدار سنوات طويلة.
فوضى الفضائيات العربية
وتوضح د. لينا حبار أن البعض من هذه الفضائيات له دور إيجابي فليست كلها بنفس السوية حيث لها أهداف تربوية وتثقيفية وتعليمية، ولكن على الأغلب فوضى الفضائيات العربية يؤدي لتنميط الجيل وقولبته بما يصب في ثقافة الجسد والمادة على حساب الروح وما يحيل إليه هذا المعنى، حيث تضرب الإنسان بمعنى الإنسان الحقيقي «الروحي والجمالي والقيمي» وتفريغ الإنسان من مضامينه وانتاج إنسان مستهلك ليس لديه أي معنى حقيقي للحياة.
وحول الآثار السلبية للمحطات الفضائية على الشباب تقول د. حبار: من شأن البرامج والمسلسلات والفيديو كليبات والأغاني الهابطة إبعاد الجيل عن واقعه وعن المشكلات الحقيقية لهذا الواقع، ناهيك عن مشكلة مهمة، حيث أصبحت شريحة لا بأس بها من الشباب فاقدة لحسها النقدي، فهذه الفضائيات ساهمت بشكل أو بآخر باختزال هذا الحس النقدي عند الجيل الناشئ فأصبح مجرد متلقٍ سلبي لا يستطيع أن يميز في الأغلب بين الغث والسمين فيما تقدمه هذه الفضائيات.
وتؤكد د. حبار أن بعض القنوات العربية تركز على مسلسلات خاصة بالمراهقين «وهي على الأغلب مترجمة» ومن شأنها أن تصدّر للعالم العربي قيماً ثقافية واجتماعية وأخلاقية لا تمت لقيم مجتمعنا الأصيلة بأي صلة، والنتيجة أن هذا الجيل يحيا حالة تمزق بين وجدانه الأصيل من خلال ما تربى عليه في الأسرة الصغيرة ومجتمعه وبين مايتلقاه من القنوات الفضائية، ولهذا التمزق نتائج سلبية على الشاب نفسه في علاقته مع ذاته، ومع أفراد أسرته ومع المحيطين به في المجتمع.
مستهلكون لمنجزات ثورة الاتصال
بالمقابل تقول د.فريال مهنا أستاذة في كلية الإعلام بجامعة دمشق: نحن العرب مستهلكون لمنجزات ثورة الاتصال وأحياناً نحن مستهلكون سيئون، لسنا مستهلكين جيدين، نحن لا ننتج هذه الثورات التي حققت طفرات كبرى في بنية ومفاهيم الاتصال الإنساني والتي مارست تأثيرات عميقة في العديد من المفاهيم التي كانت فيما مضى مسلمات، ولم تعد كذلك. حتى الآن الإعلام العربي الذي يستهلك تقنيات الاتصال لم يستوعب مضامين هذه الثورات وتداعياتها في مجال التغيير الاجتماعي داخل المجتمعات العربية، فهو يستهلك هذه التقنيات بعقليات ماقبل التقنيات، ولكنه لا يعيها، ولا يعي مدى تأثيراتها على العمل الإعلامي في تقرير مصائر شعوب وأمم. الآن الإعلام يدخل حروباً، يربح بعضاً منها ويخسر البعض الآخر، وقد امتدت تأثيراتها إلى أعماق المجتمعات الإنسانية مغيرة مفاهيم الهوية والسيادة والتراث وكل مايرتبط بها من قيم اجتماعية.
دور إيجابي يتصدى للغزو الثقافي
من جهته يرى الباحث والإعلامي عبد الله الحسن أن بعض القنوات الفضائية العربية لعبت دوراً مهماً في مواجهة النفوذ الإعلامي الغربي، وتصدت لمحاولة الغزو الثقافي الذي يستهدف الشباب من خلال كم هائل من البرامج «والتي تتوجه بشكل أساسي لجيل الشباب»، ومحاولة ضرب انتمائه لقضايا وطنه وأمته، وجذب اهتماماته لأمور شكلية براقة تخدع وترسم صوراً زاهية عن قيم الغرب وحضارته، ما يؤدي لانبهاره بتفوق الآخر والإحساس بالعجز والسلبية، والجنوح نحو التفكير بهجرة الأوطان لتحقيق المكاسب المالية والتقدم العلمي.
ويشير الإعلامي الحسن إلى مساوىء بعض القنوات الفضائية العربية التي تميل إلى التسطيح والإثارة وغياب الحوار الهادف والعلمي، إلى جانب طغيان الترفيه فالبرامج الفنية تشكل /60/ بالمئة من ساعات البث الفضائية.
ويوضح أن الحيز الذي تشغله الفنون الجادة «مثل السينما والمسرح والفنون الشعبية والآداب العربية والفنون التشكيلية» ضيق جداً وتكاد برامجه تغيب عن العديد من القنوات الفضائية.
للشباب رأي واهتمامات متنوعة
تتباين اهتمامات الشباب فيما تقدمه المحطات الفضائية العربية، وينبع ذلك من تنوع الميول واختلاف الشخصيات والآراء، تقول لما الشبلي إنها تتابع بالدرجة الأولى الأغاني والأخبار، إلى جانب البرامج العلمية التي تزود بالمعلومات القيمة، فمتابعتها على سبيل المثال لأحد البرامج العلمية ساهمت في إجابتها على سؤال في امتحانات الجامعة عن الفلك، ويوضح غيث حمزة أن الفيديو كليب والأغاني تجذب الشباب وتدفع البعض منهم إلى تقليد المغنين والمغنيات في اللباس والحركات وطريقة الحديث وحتى تقليد المذيعات، ولا يجد ضيراً في متابعة التلفاز ولكن لساعات معينة دون الدخول في أتون الاندماج في البرامج المسلية، وتعرب نور دخان عن عدم إعجابها ببرامج تلفزيون الواقع والمسابقات التي تحاول تقليد برامج غربية دون وعي لطبيعة مجتمعنا وخصوصيته، فهذه البرامج نُفذت من أجل تحقيق أعلى نسبة مشاهدة وبث أكبر كم من الإعلانات لتحقيق مكاسب طائلة وهي تتخطى حدود المنطق لتعرض أشخاصاً تجعلهم رموزاً وهم يأكلون ويتشاجرون ويلهون، إنه تعميم للإسفاف، وللأسف هذه البرامج على محطاتنا الفضائية في ازدياد.
وتستهوي ريم محمد الأغاني وبرامج التسلية، أما عماد منصور فهو شغوف كما يقول ببرامج الرياضة ويتابع القنوات الرياضية المتخصصة على وجه التحديد.
وتشير جيهان بلال إلى مساوىء المسلسلات التركية «الماراتونية» والأفلام المدبلجة، وتوضح أنها باتت تغزو محطاتنا وتطرح قيماً وعادات مختلفة جذرياً عن قيمنا وأخلاقنا العربية الأصيلة.
في السياق ذاته يشير البعض إلى انتشار ظاهرة جديدة لدى بعض الشباب، حيث لا يقتصر ولعهم ومتابعتهم للفنانين والفنانات، بل يتعدى ذلك إلى المذيعات اللواتي يمتلكن جمالاً وحضوراً خاصاً، ما يدفع بالشباب لمتابعتهن والانصراف إلى جمالهن بغض النظر عن البرامج التي تقدم حتى ولو كانت تبث حروباً ودماراً وخراباً، فتقديم العديد من المحطات لهذه المذيعة أو تلك يأتي بغرض جذب الشباب واستقطابهم إلى تلك القناة أو تلك المذيعة، فالأمر لا يخلو من أغراض اقتصادية وتجارية لرفع نسب المشاهدة وزيادة الإعلانات كما ذكرنا آنفاً.
قنوات تجارية هدفها الربح
وتقول د. وفاء موسى أستاذة علم النفس: ليس كل مايعرض على المحطات الفضائية سيئاً وله تأثيرات سلبية، فهناك برامج ثقافية وعلمية مفيدة، والمهم أن يعرف المتلقي كيف يختار برامجه التي تساعد على تنمية الفكر والوعي، والأكثر تأثراً هم الشباب وخاصة في مرحلة المراهقة حيث تستهويهم الأغاني والأزياء والموضة وبرامج التسلية، وهذا مايتيحه تخصص العديد من القنوات فالقنوات الشاملة تراجع عددها لمصلحة المتخصصة في «الرياضة، الأغاني، الدراما، الأزياء، الحفلات» وغيرها.
وتؤكد د. موسى أن الخطر يكمن في أنه ليس كل ماهو موجود في القنوات الفضائية خاضع للرقابة، فالبعض منها تجاري هدفه الربح ويبث برامج تستقطب الشباب، إلى جانب التأثير في سلوك الشباب بتقليد اللباس وقصات الشعر لأبطال هذه المحطات ما يجعلهم قدوة يحتذى بها.
وتضيف د. موسى أن القنوات الفضائية خلقت ثقافة اجتماعية جديدة، فلم يعد دور التوجيه والتربية محصوراً بالأهل والمدرسة حصراً، ففي عصر العولمة وطغيان الفضائيات ووسائل الاتصال والانترنت، كل هذه التقنيات تؤثر وتتدخل، والمشكلة تكمن في ظل هذا التدفق الإعلامي هل نمنع أبناءنا من المتابعة أم نتركهم وشأنهم، وكيف سنراقبهم ونتدخل في الوقت المناسب، هذه المهمة صعبة للغاية وقلة من الآباء والأمهات يتقنون هذا الدور، والحل يأتي بغرس القيم والعادات الاجتماعية العربية الأصيلة، وتعزيز الانتماء للأسرة بشكل خاص وللمجتمع بشكل عام، فالقيم الأخلاقية تشكل حصناً يواجه الاختراق الإعلامي الذي تقوم به العديد من المحطات الفضائية فتشوه وتخرب كل ماهو جميل وأصيل.
أخيراً
تنوعت آراء المختصين والعاملين في الحقل الإعلامي والباحثين وأساتذة علم النفس وتلاقت عند نقطة مهمة بشأن القنوات الفضائية وهي طغيان الترفيه والتسلية والأغاني على حساب البرامج الجادة والعلمية التي تقدم معلومات مهمة، وتنمي عادات صحية وتغرس قيماً إنسانية نبيلة، وركزت على الآثار السلبية التي تخلفها هذه البرامج التجارية على المراهقين والشباب بصنع قدوة تهتم بالجسد والشكل والمال على حساب الأخلاق والمحبة والروحانيات، ولم تنفِ وجود قنوات هادفة ذات بعد تربوي وتثقيفي، ورأت أن الحل يكمن بإيجاد رقابة على المحطات الفضائية للحد من تأثيرها السلبي، والاستعانة بخبرات أكاديمية إعلامية ونخب مثقفة لصنع برامج تحمل مضامين عميقة وتحقق أهدافاً اجتماعية ووطنية سامية.
**
في ظل اختراق مايقارب /700/ محطة فضائية عربية للأثير، هل تراجع دور الصحافة المكتوبة، وانحسر دور الكتاب في الوطن العربي؟
**
يشير أحد التقارير العربية إلى أن عدد القنوات الفضائية العربية بلغ 696 قناة متنوعة بنهاية العام الماضي، وتحتل القنوات الغنائية الصدارة مشكلة نسبة 23% من هذه المحطات، إذ بلغ عددها 115 قناة، ويستأثر قطاع الدراما من سينما ومسلسلات بعدد مرتفع من القنوات بنسبة 13.8، ويليه في المرتبة الثالثة القنوات الرياضية حيث وصل عددها إلى 56 قناة متخصصة أي بنسبة 11.4%، وأوضح التقرير أن عدد القنوات الإخبارية بلغ 34 قناة أي بنسبة 7%، في حين بلغ عدد القنوات الدينية والعقائدية 39 قناة بنسبة 8%.