ثم رمى نفسه مقتدياً بالعصافير، حالماً بالطيران في الفضاء الرحب مثلهم، ومؤملاً أن يتهادى فوق أسطحة المنازل وهو يوزع ابتسامات متعالية على أصحابه وخلانه الذين هم تحت، وأن يهبط أخيراً في ساحة المدينة تستقبله الجموع الحاشدة بمثل ما استقبلت غاغرين أو آرم سترونغ، لكنه لسوء حظه أو لقلة تفكيره، فقد هوى إلى الأرض وقضى نحبه وهو يعاني من كسور في أنحاء جسمه ومن نزيف في جمجمة الرأس، وقد تكون في تلك اللحظة قد مرت فوق رأسه كشة حمام، فتمنى في قرارة نفسه لو أن واحدة من تلك الكشة تخبره عن السر في نجاح تجربتها وفشل تجربته في الطيران.
لو أن عباس بن فرناس أتيح له أن يبعث حياً في عصرنا هذا، لجحظت عيناه، و(سلت قلبه) وهو يحدق في الطائرات الضخمة تعبر القارات محمولة على أجنحة الهواء.
ولو أنه سأل أي تلميذ من مرحلة التعليم الأساسي، لقال له: يا عم عباس الجناحان ضروريان من أجل الطيران، لكن العبرة في الذيل الذي لم يكن في حسبانك حين هممت بالطيران.
ولو أن واحداً من ذوي الحجى والحكمة الاجتماعية أتيح له مصارحة ابن فرناس بالموضوع لقال له: يا أستاذ عباس لا يستطيع الفرد أن يحلق دون ذيل، يا أستاذ عباس، أنظر حولك في مجتمعاتنا، وادرس دراسة موضوعية كل شخص يحظى بزعامة من الزعامات، إن كان زعيم حارة أو مدينة أو بلد، لتجد أن ارتفاعه عن بني جلدته يكمن في الذيل الذي يحمله، ولا تحسبن يا سيدي أن ذيلاً واحداً يكفي، بل حقيقة الأمر هو أن مجموعة من الذيول أو الأذيلة أو الذيلان، قد تكاتفت واندمجت مع بعضها لتشكل ذيلاً ضخماً يحمل هذا المخلوق إلى الأعلى، وكلما كبر وتضخم هذا الذيل، ازداد ارتفاع أو تحليق صاحبه عالياً في الفضاء.
غير أن شيئاً مهماً في الأمر هو أن هذا الذيل إذا تنكر لصاحبه، وانفصل عنه، فإن هذا الصاحب سيلقى مصيرك يا بن فرناس، وسيهوي إلى الأرض التي ترفع عنها، وسيلعن الساعة التي فكر فيها بالارتفاع عن أهله، ومارس التحليق بذيل اصطناعي.