المستمر منذ عدة عقود بيد أن روسيا وعدداً من الدول الأوروبية الأخرى, أعلنت عن تنديدها وتحذيرها من هذه الخطوة الحاسمة التي تنتج عنها تداعيات أبرزها تصاعد المطالبة من قبل جميع الأقليات الموجودة في الكثير من دول العالم, بالانفصال وإنشاء دولها الخاصة مهما كانت صغيرة وليست ذات شأن من ناحية الثقل الجيوسياسي أو الاقتصادي والأمني على المستوى الإقليمي والدولي, والخشية اليوم أن يبدأ العمل بتقسيم المقسم إلى دويلات أصغر مما هي عليه اليوم, ففي إقليم كوسوفو نفسه, أعلن الصرب وهم الأقلية في هذا الإقليم, أنهم سيقومون بإنشاء برلمان خاص بهم تمهيداً لاتخاذ القرارات الحاسمة في الانفصال عن كوسوفو نفسها.
ومن غير المنطقي أن يعترض على نيتهم هذه الألبان الكوسوفيون الذين اختاروا نفس هذا الطريق, بذريعة غرسها الأمريكيون في قناعاتهم المضللة, بأنه لم يعد من الممكن العيش المشترك بين الأقليات القومية في هذه المنطقة أو تلك من العالم. وفور إعلان برلمان كوسوفو الاستقلال عن صربيا, صرّح رئيس وزراء صربيا فويسلاف كوستونيتشا بأن كوسوفو (دولة زائفة) واتهم الولايات المتحدة بأنها أيدت انفصال الإقليم رغم أنه غير قانوني, وترتكب بذلك (خرقاً قاضماً للقانون الدولي فقط من أجل مصالحها العسكرية).
وإذا كانت واشنطن وباريس وغيرهما من الدول قد سارعت لمباركة انفصال كوسوفو, فإنهم لم يأخذوا بعين الاعتبار أن تأثير ذلك سيكون مثل (كرة الثلج) المهددة لفعل انقسامي في العديد من الدول الأوروبية نفسها وفي بقية دول العالم. ولهذا بالذات لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من الاتفاق على موقف موحد في اجتماعه في اليوم الثاني للانفصال في بروكسل. وكانت ست دول أوروبية على الأقل ممتنعة أو متريثة في الاعتراف باستقلال كوسوفو لتخوفها من تشجيع نزعات انفصالية بداخلها, وهذه الدول هي قبرص واليونان واسبانيا وبلغاريا وسلوفاكيا.
إضافة إلى روسيا التي تعتبر هذه الخطوة ضربة مؤلمة لمصالحها الاستراتيجية, حذرت من عودة أعمال العنف العرقية في الإقليم ومن صراع جديد في البلقان. ولكن المشجعين للانفصال قد يدركون, ولو بشكل متأخر وبعد فوات الأوان, أن دعمهم لانفصال كوسوفو ستكون له عواقب خطيرة ناتجة عن أفعالهم على النظام العالمي والاستقرار الدولي وسلطة قرارات مجلس الأمن الذي أمضى أعواماً في صياغتها. ولكن القرارات شيء والواقع شيء آخر تماماً, فما يصلح لأمريكا هنا لايصلح في مكان آخر. وإلا كيف يمكن تفسير الموقف الأمريكي المؤيد بالمطلق لتفكيك آخر حلقة في الدولة اليوغوسلافية, وترفض واقعياً إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أرضها التاريخية, لماذا تسعى لتفكيك معظم دول العالم? وترفض تحرير الأراضي العربية المحتلة, ورغم كل القرارات الدولية الخاصة بهذا الشأن, تؤيد هناك وترفض هنا, مع وجود نصوص واضحة من قبل أعلى هيئة للشرعية الدولية, هذه الشرعية أي الأمم المتحدة التي أصبحت مرفوضة كوسيط غير نزيه وغير عادل في فض النزاعات الدولية, بل والأسوأ أنها باتت ألعوبة بيد واشنطن تأتمر بقرارها وترفض إرادة العالم أجمع. إن انفصال كوسوفو يطرح, بطبيعة الحال, الكثير من الأسئلة المقلقة والخطيرة التي قد تؤدي إلى انتعاش الحركات الانفصالية داخل البيت الأوروبي الذي بات هشاً بعد انفصال كوسوفو فليس مستغرباً أن تبدأ الأحلام الانفصالية في اسبانيا واليونان وبلجيكا وقبرص وتركيا والعالم العربي وافريقيا وآسيا وفي الداخل الروسي نفسه بعد تفكيك يوغوسلافيا وآخرها استقلال كوسوفو, لن يكون هناك هدوء واستقرار لا في أوروبا كما تدعي واشنطن وباريس وحلفاؤهما ولافي العالم أجمع, ولا أحد يعرف بدقة كم دولة صغيرة ومتصدعة, سيصبح في العالم بعد حين من الزمن? فواشنطن الطامعة بالسيطرة والهيمنة على العالم أجمع, غير قادرة على تحقيق حلمها الامبراطوري هذا, إذا لم تمهد له بتفكيك كل دولة قد تشكل في لحظة ما عقبة في طريقها بهذا الاتجاه.
وعلى المتحمسين اليوم لانفصال كوسوفو من بين العرب, عليهم الانتباه جيداً إلى أن تفكيك الوطن العربي تاريخياً كان نتيجة لرغبة قوى الاستعمار والهيمنة على مقدرات العرب وخيراتهم, وتفكيك الصف العربي اليوم الذي تعمل لتعميقه أمريكا والقوى الاستعمارية الأخرى, يصب في خدمة مصالحها الاستراتيجية ومصلحة ربيبتها المصطنعة ( إسرائيل ), هذه الدولة التي منذ قيامها القسري على أرض فلسطين, كان الهدف منه إنهاك العرب وإضعافهم وتقسيمهم إلى دول ليفقدوا القدرة على مواجهة الرياح الاستعمارية العاتية السوداء, والأخطر اليوم, أن يعتقد البعض أن دعم أمريكا لانفصال كوسوفو هو دعم لحقوق مهضومة أو دعم للمسلمين في البلقان, فدعم أمريكا لانفصال كوسوفو ليس متعلقاً بديانة أبناء كوسوفو ولا بانتمائهم العرقي بل مرتبط بمقدار مايخدم هذا الانفصال مصالح أمريكا في الهيمنة على العالم.
في الظروف الدولية الراهنة, كل من يقبل بتفكيك وطنه تحت ذرائع واهية وكاذبة, فإنه بذلك يوظف نفسه لخدمة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة العربية, ومن يقبل أو يروج لوضع بلده تحت ( الوصاية الدولية ), كما كانت عليه كوسوفو منذ عدة سنوات, فإنه يساهم بشطب سيادة وحرية واستقلال بلده. فالانتماء للوطن هو القيمة العليا لكل مواطن حريص على كيانه الوطني وحتى بغض النظر عن الموقف من الحكومة القائمة أو النظام الحاكم, ومايجري في لبنان والعراق والسودان وفلسطين والصومال وغيرها, مثال كافٍ لمخاطر النزاعات الانفصالية والفيدرالية التي لايمكن إلا أن تكون في خدمة مشروع الهيمنة الأمريكية على المنطقة والعالم. وتفكيك يوغوسلافيا مثال على مايمكن أن تؤول إليه دول كثيرة من دول العالم. وإذا كان تفكيكها منذ البداية قد حدث وفق منظور جيوبوليتيكي. كجزء من استراتيجية حلف الناتو, لوضع اليد على قلب أوروبا ومن ثم التمدد نحو الشرق باتجاه روسيا وبقية دول المنظومة الاشتراكية السابقة, عقب تفكك الاتحاد السوفييتي. فإن إسقاط كل رمز لوحدة الأراضي الصربية اليوم, يحمل في داخله تفاصيل تنفيذ المشروع الأمريكي, الذي يقتضي إزالة أي عائق جغرافي سياسي للوصول إلى تخوم روسيا وإلى داخلها, لتفكيكها من الداخل, بعد محاصرتها بطوق من الصواريخ على أراضٍ كانت حليفة للاتحاد السوفييتي, ولكنها الآن جزء من الحلف الأطلسي, ما يشكل تهديداً مباشراً للقوة العظمى التي أخذت تستفيق من غيبوبتها في عهد بوتين, الذي عزّ عليه أن يرى بلاده الروسية الكبرى والعظمى, تتحول إلى دولة ضعيفة غير قادرة أن تكون لها شخصيتها ودورها في الساحة الدولية. واليوم تعمل أمريكا والغرب الاستعماري على اللعب بورقة الأقليات العرقية داخل روسيا نفسها, لأن الغرب وأمريكا لم يكتفيا بتفكيك الاتحاد السوفييتي بل جلّ مايسعون إليه اليوم هو تفكيك روسيا, ولا غرابة أن تستغل واشنطن في مخططها هذا أي دين أو قومية داخلية, فتفكيك صربيا ليس سوى مقدمة لتفكيك روسيا ومدّ النفوذ الأمريكي في أحشائها وبعد انهيارها تكون قد أحاطت بأذرع هيمنتها الأمريكية بالكرة الأرضية من الشرق إلى الغرب. أي تكون روسيا المنهارة ممراً لها للوصول إلى قواعدها العسكرية المتمركزة في كوريا الجنوبية واليابان وفي مياه الخليج العربي.
وفيما إذا قيض للولايات المتحدة تحقيق هذا السيناريو, فإنها تكون قد حققت حلمها الامبراطوري الكوني الشامل بالهيمنة على العالم كله. ومن يتنعم اليوم بالركون لأحضان أمريكا, سيكون عبداً خادماً لها, لن يكون له لا رأي ولاموقف سوى القول: ( أمرك سيدي ) الأمريكي. ومن يمد يده اليوم لأمريكا وحلف الناتو بغض النظر عن انتمائه الديني أو العرقي فإنه يرتكب خيانة وطنية عظمى بحق شعبه ووطنه وبحق الإنسانية جمعاء.
وانفصال كوسوفو ليس إلا (بروفة) قاسية لتفكيك ماتبقى من تماسك في دول العالم الهش أصلاً ومنه دولنا العربية التي يندرج تفكيكها داخلياً في بنية المشروع الأمريكي الصهيوني المرسوم للمنطقة العربية.
* مساحة كوسوفو لاتتعدى 10900 كيلو متر مربع, وهو تقريباً بحجم بلجيكا.
* العاصمة: بريشتينا.
* عدد السكان زهاء مليوني نسمة (90 % منهم ألبان, و 5% صرب, و5% قوميات وأعراق أخرى ).
* غالبية السكان فقراء.
* تغلب عليها السهول الخضراء المحاطة بالجبال والتلال وتجري فيها أربعة أنهار و 17 بحيرة ومع ذلك فالبطالة بينهم 40%.
* كوسوفو موقع أول معركة كبرى بين الصرب والأتراك في عام 1389 و لذا يعتبرها الصرب أرضاً شبه مقدسة.
* جذور الأزمة تعود إلى عام 1989 مع إلغاء ميلوزفيتش الحكم الذاتي الذي يتمتع به الإقليم وقد حكمه بالحديد والنار مستخدماً أساليب بوليسية وقمعية عنيفة.
* في أيلول عام 1991 أجرى أهالي كوسوفو استفتاءً كان نتيجة معبرة عن رغبة الغالبية العظمى في الانفصال عن صربيا وإقامة جمهورية مستقلة.
* أعلن استقلال الإقليم في 17 /2/ 2008 .