هذا ما قاله لي فنان معروف وأضاف ما تراه الآن من قصص الحب في هذا العصر ما هو إلا تبادل مصالح وأكاذيب غالباً ما يتم بخداع كل طرف للآخر كي يفوز به, أو يحقق له مطامع محددة ينتهي بانتهائها.
أنا شخصياً أرفض هذا المنطق صحيح أن حياتنا في هذا العصر أصبحت أسيرة المادة والمصالح, لكن عندما يتدخل الحب تنقلب المعادلة وتشرق الشمس من جديد
.
وما تناقلته الأساطير والتراث العربي من أحوال الهوى والغرام, يتكرر بصورة أو بأخرى في عصرنا الحاضر, ولكن هناك تعتيماً عليها في أكثر من مجال وهذا مستغرب حقاً, قرأت عن امرأة مصرية وجدت ميتة على قبر رجل, عرفت الصحافة أنه مات قبل يوم من موتها.
كنت في مدينة صنعاء بزيارة صحفية ضيفا على الدولة وفي الفندق الذي استضافوني فيه, كان معي الكاتب السعودي عبد الله الجفري, والكاتب اللبناني الراحل نجيب صالح, وأثناء ذلك أقيم عرس في الفندق المذكور وعرفنا قصته: إنها ابنة مسؤول كبير عشقت سائق سيارته فسجن الرجل وتعرض للتعذيب, وعندما علمت الفتاة بالخبر تناولت كمية من الحبوب المنومة غايتها الانتحار, وأنقذت في اللحظة الأخيرة, ما اضطر المسؤول الكبير إلى إطلاق سراح الرجل وعقد قرانه على ابنته .
يقول ابن حزم في (طوق الحمامة): إن الحب أوله هزل وآخره جد, وهو لا يوصف بل لابد من معاناته حتى تعرفه والدين لا ينكره والشريعة لا تمنعه إذ القلوب بيد الله عز وجل ولقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير.
ولكن ابن حزم يعود في رسالة أخرى ليؤكد كما قال صديقي الفنان في بداية ال (أوتار) من أن العلاقة العاطفية قائمة على الغش, قائلاً في نصه (تهذيب الأخلاق) الحب أنواع تختلف في الظاهر لكنها ترجع كلها إلى أصل واحد هو الطمع فيما يمكن نيله من المحبوب, حتى من يقر برؤية الله ويحن إلى تحقيقها تجده لا يقنع بشيء دونها لطمعه فيها, وترى المسلم يحب ابنة عمه حباً مفرطاً على قدر طمعه في أن تصير إليه..بينما تجد النصراني الذي لا يحق له الزواج من ابنة عمه لا يحس نحوها بشيء إطلاقاً وترى هذا النصراني نفسه يعشق أخته في الرضاع بينما لا يحس المسلم بعاطفة نحوها لقلة طمعه بها.
وهناك تفرقة بين المحب والمحبوب, ونلتقي بأول تفرقة بينهما عندما يذكر ابن حزم نظرية النفوس المقسومة ليعلل بها الحب,وهي نظرية موجودة أيضاً عند الإغريق تقول إن كل نصف يبحث عن نصفه الذي انفصل عنه أي إن الانثى مخلوقة من ضلع الرجل, ويرد ابن حزم كل ذلك إلى الآية الكريمة (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) ويعلق قائلاًً: فجعل علة السكون أنها منه ثم يفند ما يقال عن أسباب الحب الأخرى فلو كان سببه حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن الأجمل الأقل جمالاً , ونحن نجد كثيرين يحبون من هم أدنى منهم ولو كان السبب الاتفاق على الأخلاق لما أحب المرء من يساعده ولا يوافقه, وحين تكون المحبة لسبب من الأسباب فإنها تفنى بفنائها.
لكنه يرى من زاوية أخرى: أن الحب ليس اختياراً بل اضطرار ولو أمكن ألا تبذل نفسك لما بذلتها ولهذا ينكر ابن حزم قول القائلين إن صبر المحب على ذلة المحبوب دناءة في النفس, لأن المحبوب شخص لا نظير له في نظر المحب له أن يعفو ويرضى متى شاء.
وأروع ما جاء في تحليل هذا العالم الجليل أن (عاقبة كل حب هو أحد أمرين: إما الموت وإما السلو ,والسلو في التجربة الجميلة ينقسم إلى قسمين : سلو طبيعي وهو المسمى بالنسيان يخلو به القلب ويفرغ به البال, ويكون الإنسان كأنه لم يحب قط, والثاني السلو المسمى بالتصبر فنرى المحب-يظهر التجلد, ويرى أن بعض الشر أهون من بعض وهو ليس بناس ولكنه ذاكر.
وليؤكد من جهة أخرى لا يشترط تبادل العواطف في ظاهرة الحب, بل أن يرى على العكس من ذلك أن من طبيعة الحب أن يكون هناك محب ومحبوب وأن يختلف كل منهما موقفه عن الآخر, ومما تمليه عليه عاطفته.
وهناك من يدعي أنه أحب من النظرة الأولى وهذا الحب بنظر ابن حزم ( ضرب من الشهوة) أو هناك من يدعي أنه أحب في نفس الوقت اثنين فإنما هذا شهوة وتسمى حباً على سبيل المجاز, فابن حزم كما جاء في دارستين لإحسان عباس ويوسف الشاروني: (يؤمن بالوحدانية في الحب لأنه كما قال في شعره الذي استشهد به شبيه بالإيمان بإله واحد ودين واحد. كذلك لا يجب الخلط بين المحب والملول,فالشخص الملول طالب لذة ومبادر شهوة.
ومن أجمل ما وصفه ابن حزم في معنى تتويج الحب على العواطف الأخرى, وإعطاؤه الأولوية والصدارة فيقول إنه لولا أن لدينا دار محنة وكدر والجنة دار جزاء وأمان من المكاره لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدراً فيه والفرح الذي لا شائبة ولا حزن معه, وكمال الزماني ومنتهى الأراجي ثم يقول: ولقد جربت اللذات على تصرفها وأدركت الحظوظ على اختلافها فما للدنو من السلطات, ولا المال المستفاد ولا الوجود بعد العدم ولا الأوبة بعد طول الغيبة, ولا الأمن بعد الخوف, و لا التروح على المال من الموقع في النفس ما للوصل ولاسيما بعد طول الامتناع, وحلول الهجر ووصل حبيب جميل الأخلاق, حسن الأوصاف, أحس من إشراف الأزاهير بعد انقشاع السحب ومن صرير المياه المتخللة لأفانين الأنوار ومن تأنف القصور البيض قد أحرقت بها الرياض الخضر وما في الدنيا حالة تعدل محبين عدما الرقباء وأمنا الوشاة وسلما من البين ورغبا في الهجر وبعدا عن الملل وفقدا العزال وتوافق في الأخلاق وتكافي في المحبة وأتاح الله لهما رزقاً داراً وعيشاً وقار, وزماناً هادياً وكان اجتماعهما على ما يرضي الرب في الحال.
سأل أحدهم ابن حزم إذا كره من أحب لقائي وتجنب قربي فماذا أصنع ?! فنصحه ابن حزم أن يسعى في لقائه وإن كره فرد عليه محدثه بأنه لا يرى ذلك بل يفضل مراد محبوبه على مراده ويصبر ولو كان ذلك الموت فقال له ابن حزم : إني أحببته لنفسي ولا لتذاذها بصورته فأنا أبتع قياسي وأقود أصلي وأقفو طريقتي في الرغبة في سرورها.
ويسخر ابن حزم ممن يزعم أن دوام الوصل يودي بالحب ويرى أن هذه صفة أهل الملل, أما هو فيؤمن أنه كلما زاد الوصل زاد الاتصال ويعلن: (دعني أخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظمأ ولقد بلغت من التمكن بمن أحب أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرمى فما وجدتني إلا متزايداً ولقد طال بي ذلك فما أحسست بسأمة ووجدتني كلما ازددت دنواً ازددت ولوعاً.
لكن ابن حزم يرى أن لا كرامة في الحب فالتذلل للمحبوب من أسباب اشتعال الحب إلى أقصاه والشيء بالشيء يتشابهان: إنه امتحن بالوقوف بين سلطان غاضب ويدي محبوب ساخط فكان في الحالة الأولى أشد من الحديد, لا يجيب إلى الدنية ولا يساعد على الخضوع وفي الحالة الثانية ألين من القطن يبادر إلى أقصى غايات التذلل ويقول في ذلك أيضاً إن ما دخل عسيراً لم يخرج يسيراً , ويذكر قصة جارية له أحبها ثم ماتت, وكانت سنه إذ ذاك دون العشرين وهي دونه في السن فأقام سبعة أشهر لا يتجرد عن ثيابه ولا تفتر له دمعة على جمود عينه حتى يقول: فوالله ماسلوت حتى الآن .. وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها وما أنست بسواها.
وحديث الحب يطول ولا نهاية له إذ ذاك للحديث صلة وحكايات وقصص وأجمل القصص قصص الحب سلباً وإيجاباً