بل تغلغل فيه لإفنائه..عبر ثغرات أخطاء أبنائه
فرض معنى هذين السطرين نفسه عليّ فرضاً حين طالعت مقالتي الأولى في هذه الصفحة من هذه الصحيفة يوم الأربعاء الماضي وعثرت فيه على عدد من الأخطاء المطبعية (كي لا أتطرق إلى الهفوات الإخراجية)
التي كان بعضها خطيراً إلى درجة الكفر (الكاف قبل الفاء) لا بل إلى درجة التكفير (والكاف أيضاً قبل الفاء) في المثل الذي أوردته, والقائل:
العبد في التفكير (الفاء قبل الكاف) والرب في التدبير, صحيح أن الزميل العزيز طابع هذه الصفحة لا يقصد كتابة التكفير (معاذ الله) بدلاً من التفكير في هذا السياق, إلا أني أرجوه أن يسمح لي, مع الفاضلين: المحرر والمدقق, أن أذكر بأن هفوة كهذه قد تنقلب إلى خطأ فادح يشكل ثغرة ينفذ منها عدو يبتهج بزرع الفتنة-ولست أبالغ في قولي هذا-أو زرع الشك أو كشف الجهل أو عدم المبالاة في أحسن الأحوال.
وأسارع إلى القول إني كصحافي يعرف تمام المعرفة معنى وطأة ضغط العمل, والعمل تحت وطأة الضغط, ألتمس لأخوتي الطابع والمحرر والمدقق (سبعين) عذراً, وأطرح هذه الأعذار أمام القارىء اللبيب الذي يميز بين الهفوة والخطأ ويعذر بالتالي الخطأ التكفيري المذكور أعلاه وغيره مما ورد في مقالتي السابقة, لكني في الوقت نفسه أهمس في أذن أخي الطابع (والذكر في اللغة يضم الأنثى ضمناً) أن ينتبه إلى ما يطبع كي لا يفسح مجالاً لقارىء خبيث كبعض الأصدقاء الغيارى الذين اتصلوا بي-كي يتهمه ويتهمني عن خبث لا يخلو من براءة, بارتكاب مثل هذه الأخطاء-الثغرات!.
مثل هذه الأخطاء على مستوى أخطر وأضخم ارتكبت في عهد الوحدة مع مصر الشقيقة التي نحتفل غداً بالذكرى الخمسين لقيامها رسمياً وتطورت إلى ثغرات نفذ منها أعداء الوحدة العربية فأجهضوها برعماً لم يبلغ عامه الرابع بدلاً من أن تحتفل أمتنا بعد غد بعيدها الذهبي.
ومهما يكن موقف القارىء الكريم من التجربة الوحدوية الأولى بين قطرين عربيين في التاريخ الحديث, فلست أهدف من أسطري هذه إلا استرجاع ذكريات شخصية خاصة تعود إلى الأعوام ,1958 ,1959 ,1960 ,1961 خلال هذا الشهر كله بالغة ذروة مظاهر الاحتفال في الحادي والعشرين منه, ذكرى تصديق مجلس الأمة في الجمهورية المصرية والمجلس النيابي في الجمهورية السورية على ميثاق الوحدة بين الشقيقتين الذي كان أعلن عنه في الأول من شباط (فبراير) .1958
في مثل يوم غد قبل خمسين عاماً كنت مع أسرتي في بيتنا (العربي) بسوق ساروجا أحد أحياء دمشق القديمة (خارج السور مباشرة) نترقب حدثاً رسمياً يتعلق بإعلان الوحدة الاندماجية الكاملة مع الشقيقة مصر, حين قطعت إذاعة دمشق برامجها ليعلن المذيع بصوت لا تزال حماسة فرحته تدوي في أذني: أيها الأخوة المواطنون, الرئيس جمال عبد الناصر في دمشق..الرئيس عبد الناصر في دمشق..(وكررها مرتين أولاً ثم تكررت مرات في كل تارة تقطع فيها الإذاعة برامجها), لم أشعر-وأنا الصبي الذي لم يكمل حينذاك عامه الثالث عشر-إلا وأنا وسط حشود متدافعة من أبناء جيلي وأكبر منهم وأصغر: شيوخاً ورجالاً ونساء وحتى أطفالاً, موالية شطر دار الرئيس شكري القوتلي في أبو رمانة (التي كانت حتى عهد قريب مقر السفارة الأردنية), حيث أعلن أن الرئيس القوتلي يستقبل أخيه الرئيس عبد الناصر, ورغم أن بيتنا لم يكن بعيداً جداً عن تلك الدار إلا أنني وجدت آلافاً قد سبقوني وغص الشارع بهم إلى درجة أنني لم أجد سوى سور السفارة اليوغوسلافية المقابلة (سفارة صربيا اليوم) لأتسلقه مع من استطاع إلى ذلك سبيلاً كي نتمتع بلهفة وحماسة بمشاهدة الرئيسين (حبيبي الملايين) اللذين أطلا بعد دقائق من الشرفة الصغيرة المتواضعة لتحية الجماهير التي بحت أصواتها المختنقة بدموع الفرحة التي ملأت العيون الشاخصة ببصر يكاد لا يصدق ما يرى, لم يكن أحد يسمع-أو يريد أن يسمع-رد التحية من الرئيسين بل كان الجمع الجميع يصرّ على أن يوصل لهما ما يعتمل في القلوب ويجش في الصدور.
ولا أنسى-وكيف أنسى-مشهد تلك السيارة السيتروين السوداء القديمة طراز 1939 التي دفعها سوء حظ صاحبها إلى أن يوقفها قبالة تلك الشرفة لكي يمتطي سقفها المتين مالا يقل عن عشرة أشخاص لم يتسع لهم الشارع العريض نسبياً, فما كان من السقف المسكين إلا أن تهاوى بمن فوقه ليستقر على مساند المقاعد تحته.
ولا أنسى -وكيف أنسى أو ينسى أي شاهد عيان-مشهد رفع سيارة الرئيسين (الرئاسية) رغم ثقلها على أكف الجماهير وأيديهم من دار القوتلي إلى قصر الضيافة في نهاية الشارع على بعد حوالى مئتي متر لا غير, في (رحلة) استغرقت قرابة ساعة كاملة! وما أزال (أرى) هذه المشاهد إلى اليوم كلما مررت في هذه الطريق, واللافت -ولا عجب-أن الاحتفالات بعيد الوحدة كانت تتعالى فرحاً وابتهاجاً ومهرجانات كان أكثرها عفوية سنة بعد سنة, إذاً ما الذي أجهض ذلك الحدث الأعظم في تاريخ أمتنا الحديث? (الناصريون) قبل غيرهم يدركون أخطاء عبد الناصر ورجال عهده-مصريون (من الإقليم الجنوبي) وسوريون (من الإقليم الشمالي) عن قصد أو غير قصد, تلك الأخطاء التي لم يكن مناص من أن تتفاقم إلى ثغرات نفذ منها أعداء الوحدة ليقضوا على الجمهورية العربية المتحدة وهي بعد تحبو نحو النمو والنضج.
لقد أصبحت الوحدة مجرد ذكرى لأننا في رأيي لم ندرك (ولا نزال غير مدركين) أن أخطاء ثغرات في جدارنا, في سورنا, في سدّنا المنيع ينفذ منها أعداؤنا ليهدموا الجدار والسور والسد لكننا نتذكر أيضاً ببريق من الأمل أن علم قطرنا العربي السوري الحالي هو علم الوحدة بنجمتيه المصرية والسورية, وهذا ما يدفعني-في عيد الوحدة الخمسين- إلى الدعوة والدعاء بأن يحمل علم وطننا الكبير من محيطه إلى خليجه اثنتين وعشرين نجمة أم هل الأحرى بي أن أحلم بأن ترصع هذا العلم نجمة وحدوية واحدة.