إن التفسير الوحيد لهذا السلوك الشاذ الذي تلوّن فيه أردوغان تلوّن الحرباء . وتحوّل من ادّعاء الجبروت الى حالة المسكنة , يتمثل في حقيقة أن الناتو , وعلى رأسه الولايات المتحدة بالطبع , وإن حاول ظاهرياً ألا يضع أردوغان في خانة الخذلان , إلا أنه عملياً أبلغه بالموقف القائل بأنه من غير المسموح له أن يحيل علاقة تركيا مع الناتو الى لعبة صبيان . فإذا أراد أن يلعب وحده , فليذهب هو وإرهابيوه ليقاتلا , ولكن لن يكون لهما في الناتو من نصير أو ظهير . بل إن الناتو قد يضطر الى إسقاط تركيا من عضويته .
لقد حاول أردوغان مراراً وتكراراً أن يلعب بورقة توريط الناتو , وأن يتصرّف على أساس الثقة بأن الناتو يقف من ورائه . ولعل هذه اللعبة كانت ملائمة للناتو كل الملاءمة , طالما أن الهدف الذي تسعى إليه واشنطن وتجر الناتو من ورائها لتحقيقه يتمثل في نشر الفوضى فيما تسمى بمنطقة الشرق الأوسط بغية تمكين إسرائيل من التوسع بين الفرات والنيل . ولقد جلب الناتو لبعض الوقت درعه الصاروخية الى داخل الأراضي التركية لتشجيع أردوغان على سياساته العدوانية في نطاق تلك العملية رغم أنه لم يكن عملياً بحاجة الى مثل هذا الغطاء .
لقد سعى أردوغان – كما هو معلوم – الى إيجاد ما يزعم أنها منطقة عازلة في الشمال السوري . وحين فشل في إقناع الناتو بتبني مشروع المنطقة العازلة هذه , عمل على تنفيذها واقعياً من خلال أسلوبين :
أولهما – العبث في التركيبة السكانية في الشمال السوري لصالح فئة سكانية معينة ظن أنها يمكن أن تتخذ ذريعة .
وثانيهما – زرع تنظيمات إرهابية من تركيبة عرقية عنصرية معينة .
ولقد برّر تدخله وتلاعبه على هذا النحو بالانحياز لما ادّعى أنها « أخوة الدم ». وتوسّع في استثمار أخوّة الدم هذه , والتي تذكرنا بمنطق النازي هتلر وادّعاءاته عن صفاء العرق الآري الذي ينتسب إليه , فأخذ يجلب الإرهابيين الذين تربطه بهم « أخوة الدم » من دول وسط آسيا ومن الصين لينتظموا في تشكيلات خاصة بهم تحت مسميات عثمانية اختارها لهم . وبحجة نجدة هؤلاء الإرهابيين المزروعين زرعاً شيطانياً كان اعتداؤه على القاذفة الروسية , فقال إنه استهدفها لأنها قصفت « أشقاءه » هؤلاء .
هنا , انتقل العبث الأردوغاني عملياً من مستوىً الى مستوىً آخر . فالعبث بالبنية السكانية في سورية , أو إحضار إرهابيين من الأتراك وغير الأتراك لنشر الفوضى فيها , وسواءجمعته معهم أخوة الدم التي يتحدث عنها أو لم تجمعه , تبقى في نظر الناتو , وعلى رأسه أمريكا , خدمة لمخطط نشر الفوضى في المنطقة , أما افتعال الصدام المسلح مع روسيا و وما ينطوي عليه هذا من مخاطر , فشأن آخر مختلف . إن عملاً من هذا النوع قد يعني تغيير هبوب اتجاه الريح كلياً . ومن المؤكد أنه لا يجوز للتابع أردوغان أصلاً أن يقدم عليه , بل إن أيّ دولة عضو في الناتو لا تجرؤ على أن تقدم عليه منفردة دون العودة مسبقاً للحلف , أو دون أن تحصل على موافقة واشنطن الواضحة بشكل مسبق , رغم أن هذه الموافقة لا تكفي عملياً . ومن هنا نستطيع أن نفهم بأن كل محاولات أردوغان اللفظية للتنصّل من فعلته ليس الهدف منها إرضاء روسيا كما يتصور الكثيرون , وإنما يتمثل هذا الهدف في محاولة إرضاء أميركا والناتو . فهو كمن يقول علناً أمام الرئيس الأميركي « توبة ما بقى أعيدها » أو « أخطأت ومنكم السماح » !!.
هل يعني هذا أن أردوغان عرف حدّه وسيقف عنده ؟ .
ربما كان الجواب بالإيجاب فيما يتعلق بمحاولته توريط الناتو . فأردوغان – ومهما كانت دالته – لا يستطيع أن يقول للناتو : أنا سائر في هذا الطريق فاتبعوني ! . ونظن أنه بات الآن يعي هذا الدرس جيداً . لكن أردوغان بالمقابل بات متورطاً ومورطاً للناتو في أمور لا تقل خطورة .
إن أردوغان الآن يتزعم إخوانية الإخوان المسلمين . وهي إخوانية قائمة – وفق ادّعاء أصحابها – على أساس ديني , ولا تتردد في ممارسة الإرهاب كلما وجدت ذلك في مصلحتها . وهذه الإخوانية لها صفة عالمية , ولا تقف حدود انتشارها عند العالم الإسلامي. ووفق حسابات أردوغان فإنه يريد من هذه الإخوانية أن تمكنه من استعادة سلطنة آل عثمان . ونحن نرى في هذه الأيام كيف يسعى أردوغان لتسليح هذه الإخوانية واستثمارها في العديد من البلدان , ومنها سورية واليمن وليبيا ومصر وربما في بلدان أخرى .
ولم يكتف أردوغان بإخوانية الإخوان , فتحالف مع جميع التنظيمات الإرهابية التكفيرية , بدءاً من القاعدة ووصولاً الى داعش . وباتت تركيا عملياً مقراً وممرّاً للإرهابيين .
الغريب أن أردوغان لم يكتف بإخوانية الدين , سواء مع الإخوان أو مع القاعدة, وإنما ذهب الى إيجاد إخوانية أخرى قائمة على الدم والدين معاً . وبات يطلق عليها اسم « إخوانية الدم » . وهذه الإخوانية تعني أن له حساباته التي قد تتطلب في وقت ما الاصطدام مع إخوانية الإخوان أو إخوانيات القاعدة والحاجة الى تذليلهما لمخططاته الخاصة .
إن فكرة « إخوانية الدم » في حدّ ذاتها , قد تفسّر العلاقات القائمة بين أردوغان وبين الكيان الصهيوني والتعاون القائم بينهما في تنفيذ المخطط الأميركي المتعلق بالشرق الأوسط الجديد , إذ إن أردوغان قد يرى في علاقته مع اليهود الأشكيناز ذوي الأصل الخزري ما يمثل « أخوانية دم » بينه وبينهم . وأما وجهات النظر القائلة بأن أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو هما من يهود الدونمه , وأنهما ينشطان على هذا الأساس , فتبقى شكوكاً تحتاج الى الإثبات , لكن سلوك أردوغان العملي في التعامل مع الصهاينة يكفي للدلالة على انحراف نهجه عن مقتضيات الفكر الإسلامي الذي يزعم الانتماء اليه , وإلى إخوانياته . ويبقى أن انتماءهما للإخوانية الماسونية يمكن أن يفسر جملة سلوكهما.
إن تعامل أردوغان مع الإخوانيات التي عددناها , بالإضافة الى الارتباط بحلف الناتو , قد يفسّر سلوكه القائم على تهريب الأسلحة الى الإرهابيين في العديد من الاتجاهات , حيث لم يقتصر الأمر على سورية وإنما شمل أقطاراً أخرى مثل ليبيا واليمن. وإذا كانت « إخوانية الدم « تشدّ أردوغان باتجاه آسيا الوسطى والصين , وتثير التساؤل حول أدوار تخريبية يمكن أن يلعبها في تلك المناطق الآسيوية وفي روسيا , فإن الأمر المثير للتساؤل يتمثل في ضبط شاحنة تركية في إيطاليا وهي تحاول تهريب ثمانمائة بندقية الى بلجيكا مصدرها تركيا . فإذا كان العبث الأردوغاني في المنطقة العربية مفهوماً في ضوء المخطط الأميركي الصهيوني الذي يستهدف المنطقة ويوظف أردوغان , فما هي الحسابات التي تجعل أردوغان يتوجه نحو أوروبا أيضاً , بل ونحو أوروبا الغربية ؟.
هنا لسنا أمام محاولة من أردوغان لتوريط الناتو في حرب مع روسيا , وإنما أمام تورط أردوغاني في أوروبا نفسها . وقد يحاول أردوغان تبرير هذه الواقعة بأنها ليست استهدافاً لأمن أوروبا , وإنما هي محاولة تهريب أسلحة في صفقة تجارية غير معلنة , وأنه ليس مسؤولاً عنها . ولكن حتى إذا كان الأمر متعلقاً بصفقة تجارية , فإن مثل هذه الصفقات التي جعلت أردوغان شريكاً للإرهابيين في كل أشكال السلب والنهب تكشف عن وجه أردوغان الذي يجمع بين علاقته بالإخوانيات الإرهابيات وعلاقته بالمافيات . ولنتذكر هنا كيف أن علاقة أردوغان بالإرهابيين قد اختلطت بالفعل في عمليات سرقة كبرى للنفط والحبوب والمعامل وكل ما طالته يداه , وأن عائلة أردوغان متورطة معه في مافيا الاتجار بالمسروقات والتعامل مع الإرهابيين .
إن هذه الملامح في شخصية أردوغان وفي سلوكه تجعله يمثل خطراً كبيراً على الأمن والسلم الدوليين . ولقد بات العالم الآن يستكشف شخصية أردوغان الفعلية بعد أن كانت ملامح هذه الشخصية وما تمثله من خطر غير بارزة أمام الكثيرين .