تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الرجل الذي.. أضاع رجولته..

الرسم بالكلمات
الأثنين 13/10/2008
رنا علي

مالكم تنظرون إليّ هكذا.. هل من خطب? ماذا? تتساءلون عن هذا الذي أضاع رجولته حسناً..(كان) رجلاً يفيض صمتاً ورجولة وكان يجاور بيتنا, في الطرف الآخر من العالم عبارة غير ملائمة ولكن كان له عالمه الخاص والنّاس كلّ النّاس في الطرف الآخر من عالمه.

كان يحبها..يعشقها..ذائباً فيها,.. كان مستعداً لأي شيء من أجلها.. لم يحاول أحد اقتحام عالمه حتى نحن الصّغار الفضوليين خفنا منه ومن صوته الأجش وكتفيه العريضين و.. مازالت أتذكر شاربيه.‏

كنّا نشبههما بميزان أبي جاسم, يوزن أفكاره عليهما, كبيران كثيفان يخفيان تحتهما فماً يحفظ لسانه, كان قليل الكلام مع الجميع وحين يتكلم كنّا نختبئ خوفاً من صوته.‏

يبدو أنني أصفه ولم أخبركم كيف أضاع رجولته.. حسناً من البداية.‏

نحن من حي شرقي قديم يرى الرجولة في الشوارب ,حتى الصّغار كانوا يحلفون بشواربهم تلك التي لم تبزغ بعد.‏

ألم أخبركم عن اسمه بعد هو غريب سكن حينا فأسميناه الغريب, ليس لغربته عن بلاده ومحبوبته بل لغرابة رأسه, لا يرتدي الطربوش كرجال حيّنا ولا حتى طاقية الصلاة البيضاء بل ترك شعره الأسود يظهر لعيون صبايا حيّنا اللواتي كن يختبئن خلف الشبابيك وأكثر ما يميزه هو أذنه المقطوعة.‏

كانوا يسمونني الشّقية لأنني كنت وما زلت أقتحم على الصامت صمته وعلى الباكي حزنه وعلى الفرح سعادته, لكنني كنت جبانة أمام غريب دفعوني كثيراً لأطرق بابه الخشبيّ الكبير.‏

الذي كان مثله مثل كل الأبواب والجدران, فكل حيّنا أبوابه وحيطانه ورجاله متشابهون, وكنّا نعرف بيوتنا من شيء واحد, لقد أعطيناها أرقاماً وكم كنّا نضحك عندما يخطئ أحدنا في البيت ولكنني لم أضحك حين أخطأت البيت.‏

حدث هذا عندما كنا نلعب في الحيّ ظهراً لمّا شقّ أصواتنا وشارعنا صوت سيارة بسرعة ,وكالأرانب سارع كلّ إلى بيته ومثلهم فعلت أنا, فتحت الباب ودخلت وأسرعت إلى ساحة الدار وأين غسيل أميّ? أبي.. تعالى صراخي بلا مجيب ومن أين المجيب إذا كنت دخلت الدّار الخطأ توقفت, صمت استدرت لأنظر حولي فإذا بي أرى غريباً خلفي كلّ ما أتذكره هو أن غريباً صار أمامي وجهاً لوجه, لست أدري ماذا فعلت صرخت بكيت, جريت, لا أعلم لكن الشيء الذي صار أنني وغريب وحدنا.‏

لأول مرة أراه ضخماً جداً.. طويلاً ذا كتفين كبيرين بشكل لم ألحظه, عيناه سوداوان واسعتان حزينتان.. فجأة وجدت نفسي في الهواء بين كفين ككفي الدب شعرت بنفسي صغيرة رغم طولي جداً أمامه «هل أنت خائفة» لا بدّ أنني أجبته بنعم فقد سألني:‏

لماذا ركزت نظري على شاربية فأنا لم أستطع البوح ببنت شفة.. ضحك بدهشة.‏

«أتعلمين شواربي لمن?» تهيأ أنه رجل أحمق (يسألني شواربه لمن!) ركز عينيه على عيني لدرجة أنني أحسست أنه علم ماذا في رأسي ذي الضفيرة.‏

«شواربي لحمدة.. أتحبين الحكايا? سأحكي لك واحدة.. لا تخافي لست ذلك الرجل المرعب إنما أنا رجل عادي بشاربين لا أكثر ولا أقل.. آه حمدة صبية بنت ضيعتي ذات مرة كنت في السابعة عشرة قلت لها أحبك, حمدة سخرت وقالت أريد رجلاً سألتها كيف الرجل الذي تريدين? قالت: بشاربين وكتفين عريضين, سافرت لآتي بكتفين كبيرين وشاربين جميلين, سنيناً كثيرة تطلب ذلك مني وعندما عدت وجدتها في حضن زوج بشاربين كبيرين غليظين وقذرين وكتفين عريضين عصر زنداهما خصر حمدة.. حمدة ذلك الغصن المياس انعصر في شجرة جمّيز بشعة.. كفها ترك أثراً على خد حمدة ذلك الذي طالما اشتهيت.. حزنت وتركتها تنصهر في قالب الحديد ذاك..»‏

بينما كانت حمدة تنصهر في قالب الحديد انصهرت أنا في كلامه ذاك الذي استمر ساعات ..نسيت أنه خلالها كان الأهل والجيران يبحثون عني.. ومع أنه خطر في بال الجميع أن يسألوا غريباً عني لم يتجرأ أحد على طرق بابه, وكيف يطرقون باب رجل أحاطوه بالإشاعات وجعلوه أسطورة تروى لنا قبل النوم! كان في نظرهم سجيناً هاربا..ً جندياً مهزوماً.. ابناً عاقاً هجر والديه العجوزين, خطر لهم كل شيء إلا أن يكون عاشقاً, أجل عاشق, هذا الرجل ذي الأذن المقطوعة غريب شيء غريب...‏

خرجت من عنده ورويت الحكاية.. لم يصدقني أحد (كنت عند غريب? حكاية أخرى من عقلك الصغير) لقد اعتقدوها حكاية من حكاياي الصغيرة.‏

فكرت فيما قاله لي غريب وما قلت له: (ليست شواربك هي رجولتك بل أذنك أتذكر?).‏

(كنا نلعب وكانت دلال أكبرنا في الخامسة عشرة عندما تعالى صوت دلال كل الرجال الجالسين على القهوة رأوها ولم يتحركوا عندما كان غريب عائداً إلى بيته حاملاً عمره الأربعيني على كتفيه كانت دلال على الأرض متألمة من عضة الكلب الذي كنا نتحرش به ,حاول الرجال بصراخهم وطرابيشهم الحمراء إبعاد الكلب كما لو كانوا يبعدون ثوراً من حلبة المصارعة, إلا أن غريباً تقدم مسرعاً مبعداً الكلب بيسراه محيطاً خصر دلال بيمناه.. ظن نفسه في تلك اللحظة مالكاً لخصر حمدة اعتصره فامتزج الخوف بالشكر في عيون دلال.. أيقظه من وهمه ألم شعر به في أذنه كان الكلب قد انتقم ولم يطل انتصاره فقد عالجته ضربة أخرى من يدين كبيرتين أطاحت به هارباً.‏

لم يعبأ غريب الدم النازف من أذنه كما اهتم بالدم الخارج من قدم دلال, حملها بين ذراعيه وعيونه ملأى بالحب لدلال و لحمدة أوصلها إلى الباب المتوارية خلفه السنوة وتركها مودّعاً وضع يده على أذنه و دخل بيته).‏

حين ذكرته بذلك صفن في أعماق طفولتي وقال بعد لحظة: «فعلاً ليست الشوارب رجولة».‏

خلال الأيام التالية كان يخطر في الحي كالعادة ترافق خطوته غمزة من تلك وابتسامة من أخرى, كان يعجب الصبايا المختبئات بشاربيه وعرض منكبيه.‏

وذات ظهيرة خرج من بيته كالعادة وما هذا? أين شاربيه نظر إلى بيت دلال فسمع ضحكة نسائية ساخرة تحسس شاربيه.‏

»من أجلهما تضحك..?« تساؤل سرّي, جاوبه صوت انطلق من داخل القهوة (يا حيف أين الرجال..?).‏

بقي يومان حليق الشوارب كنت خلالهما أعيد سرد الحكاية لأهلي ولأصحابي ولم يصدقني أحد مع ذلك, وأكدت أن غريباً قال لي: »ليست الشوارب رجولة» وفي هذين اليومين راحت الصبايا يتغامزن ضحكاً من خلف الشبابيك والرجال يطيلون شواربهم مفخرة.‏

تعجّب غريب »غريبة جماعات الصبايا تطلبن الشوارب ثم يتغامزن عليها ما هذا لم تقبل إحداهن بي وبشاربي والآن بلا شاربين كيف سأعجبها?«.‏

فجأة رحل غريب لم يعرف أحد متى وإلى أين وكيف ربما رحل ليبحث عن حمدة أخرى ترى فيه رجولته بلا شاربيه.‏

تعليقات الزوار

رامي طوفان |  ramitofan@rocketmail.com | 25/08/2010 05:30

أرجو أن تبقى رنا في تألقها الكتابي الدائم وألا تبيع قلمها لأجل رجل

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية