صار إرثاً إنسانياً في فلسطين -الضفة الغربية قرب نابلس. تأملت البناء: كان فعلاً قديماً جداً, وثمة ما كان منه قد أصيب بفعل عوامل الزمن- وربما بفعل (المعارك) التي لم تبق شبراً من فلسطين لم يصب بها أو لم يتخضب بدم أبنائه خلالها ومنذ ما يزيد على الألف عام..
هذا الصديق أكمل يقول: ليس أفضل من بيت -سقف للإنسان- يقول عنه إنه ملاذه- حياً- ويبقى ملاذ الأولاد والأحفاد أيضاً. وإن لزم الأمر وتطلب أن يتم تبديله فليس سوى التمسك بالأرض ذاتها. أليست تحمل همسات الراحلين? أليست تحمل أنفاسهم وآهاتهم وعرقهم وحتى الكثير من أحلامهم التي ووري قسم منها الثرى مع أجسادهم لينتقل وراثة -طبيعية- إلى الأبناء ومنهم إلى الأحفاد?
يجري الحديث اليوم عن (الدولة الواحدة) كحل للقضية الفلسطينية. الدولة الواحدة لشعبين, وفي المساء كان ثمة أحد كبار المفكرين اليهود الصهاينة يتحدث عبر فضائية عربية عن اشتراطات فلسطينية أو عربية مستحيلة من مثل (حق العودة). هذا المفكر أو الأستاذ الصديق (!) للعرب عامة ولشعب فلسطين خاصة يعتبر حق العودة كارثة ومانعاً يجب التخلص منه كي يعيش (الشعبان) معاً بسلام. لم يفكر بمعنى أن يكون الإنسان بلا وطن وبلا أرض -من غير سقف له ولا لأبنائه أو أحفاده. لا يدرك هو أو سواه من المشاركين في اغتصاب حقوق الملايين من أبناء فلسطين معنى أن يظل الإنسان مثقلاً -في كل لحظة- بحمل (بقجة أو صرة) ثم الانتقال من (خيمة إلى أخرى) -ومن بلد إلى آخر بحثاً عن الأمان. والأمان لا يكون بغير الأوطان. فحتى حين نفقد الأمن -في بلد ما- لسبب موضوعي مثل وقوع احتلال خارجي -فإن الأمل بعودة الأمن والأمان قائم -دائماً- فالاحتلال ليس دائماً ولن يكون ثابتاً في أي حال. إن التاريخ الإنساني يحفل بالعابرين.. وكذا هم المحتلون اليوم- إنهم عابرون.
في اللحظة الراهنة كنت أصغي إلى حوارات تدور عبر الفضائيات عن (حل) للقضية الفلسطينية. أحدها أعجبني جداً وأثار اهتمامي ودهشني. قال: أمام (إسرائيل) واحد من الحلول الثلاثة الآتية:
الأول: حل الدولتين بما يعني الانسحاب من كل الأراضي التي احتلت في سنة سبعة وستين. والثاني: حل الدولة الواحدة للشعبين, والثالث: استمرار الوضع على ما هو عليه وعودة الشعب الفلسطيني إلى الانتفاضات والكفاح المسلح (العجيب أن حديثه عن الخيار الثالث جاء بصيغة الماضي)- مع أنني أرى أننا ما زلنا في ظلال وتبعات ونتائج الانتفاضة الثانية -وقريبين جداً من انتفاضة ثالثة - ولم نلق السلاح- كفلسطينيين أصحاب حق .. وربما لن نلقيه على الإطلاق ذات يوم حتى وإن فرض علينا حل (الدولة) فرضاً ننظر إلى ما يحدث في عكا, وننظر إلى ما يفعله المستوطنون في الضفة الغربية- إنهم يعتدون ويقتلون ويصادرون الأرض والشجر والثمر والحق وحتى نسمة الهواء.. فكيف تكون (الدولة الواحدة إن لم تكن موحدة)? ثم كم سنة مضت على احتلال عكا? أكثر من ستين سنة ومع ذلك فلا تعايش) إنه جلوس على ألغام. أو قل إنه مسير متخبط في حقل من الألغام. لا أعني إطلاقاً استحالة أن يعيش أكثر من قوم في وطن -فالعالم كله مخلوط- وذي الولايات المتحدة كمثل, كما أن كثيراً من الأقطار العربية فيها أقليات إلى جانب معظم دول العالم. فهناك صيغة ومعها قيم ثابتة للتعايش. هذه الصيغة هي: ألا يكون ثمة ظالم وثمة مظلوم.. فكيف يكون الوضع في فلسطين وهي دائماً عربية ولكنها ما كانت تلفظ أي إنسان بقصدها محترماً أهلها ومحافظاً على مشاعرها وحقوقهم إن الصهاينة يتصرفون في فلسطين من موقع (الغاصب القوي)- وأكثر من ذلك أن فيهم من يرى أن (الدولة) يجب أن تكون (نقية) أي يهودية فقط وليس فيها مكان لاللمسلمين ولا للمسيحيين. وهؤلاء كثر وهم ينطلقون من أن (كل فلسطين لهم وأن مشروعهم من الفرات إلى النيل ما زال قائماً- بصرف النظر عن نصائح أولمرت المطرود من الخدمة-حالياً).
كيف يمكن الجمع بين هذه النقائض? ثم إن كان الفلسطينيون المشردون من أرضهم المحتلة عام 1948 أكثر من خمسة ملايين فما العمل إذا قيل (تخلوا عن حق العودة والتعويض)? لا يعوض الوطن إلا الوطن -ولا يشعر الإنسان بالأمن والطمأنينة إلا تحت سقف بيته في وطنه.. ولا يمكن لدائرة الاستقرار أن تدور في ظل فرض الأمر الواقع. السلام مطلوب وممكن شرط أن يكون عادلاً, فالسلام (غير العادل) يخلق وهماً اسمه الأمن والاستقرار. أنا لي وطن, وأنت لك وطن. والذين تنادوا من كل (الأرض) ليحتلوا فلسطين ويشتتوا شعب فلسطين هم كانوا قادمين من (أوطان لهم). وإذا كان ثمة من يشعر بنوع من وجع الضمير في أوروبا عموماً وفي أي مكان آخر في العالم بسبب (المحرقة) فليس عليه إلا أن يتساءل: من أجج المحرقة? أهو شعب فلسطين? ثم ماذا يجري الآن في فلسطين كلها: أليس (المحروق ظلماً) يحرق (الآخر)ظلماً -في وطنه? ليس للفلسطيني سوى فلسطين (سقفه وأمنه وحقه) وليس للغاصب إلا الإقرار بما فعل والتخلص من الوزر -وإعادة الحق إلى أصحاب الحق. سوى ذلك سيظل الخيار الثالث قائماً أبداً.
nawafabulhaija@yahoo.com