بأن ربطت تحقيق السلام الشامل بوضع حد للحرب الدائرة الآن في اقليم دارفور في أقصى غرب السودان, وما ذكر أخيراً عن توجه أميركي للتشدد تجاه الحكومة السودانية فيما يخص مشكلة دارفور, يظهر يوضوح أن واشنطن تتدخل في الشؤون السودانية, وأنها صارت مربط الفرس لكل الجهود الرامية إلى استقرار السودان وأن كل الطرق أضحت تؤدي إليها.
وإذا كانت أزمة دارفور قد أفلتت خلال الأشهر الماضية من محطة التدويل, فإن ثمة جملة من المؤشرات والتطورات أعادت هذا السيناريو إلى الواجهة وجعلته قاب قوسين أو أدنى من حدوثه, فقد ذكرت وزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة وبريطانيا تفكران في فرض منطقة حظر جوي فوق اقليم دارفور, إذا لم تسمح الحكومة السودانية بدخول قوات حفظ سلام دولية إلى المنطقة, ويهدف الخطر الجوي حسب المصدر نفسه إلى منع الحكومة السودانية من دعم الميليشيات التي تستهدف المدنيين, وكشفت صحيفة فاينتشال تايمز نقلاً عن مسؤولين أميركيين أن إدارة بوش (تعمل أيضاً على وضع خيارات عسكرية تتضمن شن غارات جوية وفرض حصار بحري على السودان إذا استمرت أزمة دارفور بالتدهور وكان المبعوث الأميركي الخاص بالسودان (أندرونا تسيوس) التقى في الخرطوم الرئيس عمر حسن البشير الذي رفض نشر قوة تابعة للأمم المتحدة, معتبراً أن ذلك يرقى إلى درجة عودة الاستعمار الغربي لبلاده وفي الوقت ذاته تأتي اتهامات تشاد بقيام السودان بدعم متمردين من حركة (التجمع من أجل الديمقراطية والحرية) للإطاحة بالنظام التشادي لتصب المزيد من الزيت على النار التي تحيط بالخرطوم من عدة اتجاهات, تشاد قامت بتحركها هذا مدفوعة بحسابات دوائر خارجية, تريد حشر السودان في ركن من التوترات المستمرة إلى حين ترتيب أوضاعه بصورة متكاملة تزامن هذا التصعيد مع بعض النداءات الدولية بالتدخل وارتفاع سقف المطالب الأميركية من السودان وبالتالي تتهيأ العوامل اللازمة لتوسيع نطاق الاستهداف ويصبح التدويل ممكناً وسط درجة أقل من الممانعات.
التصرفات والتوجهات السابقة تحمل أكثر من دلالة في مقدمتها اقتراب الإعلان صراحة عن فشل الاتحاد الافريقي في مهمته العسكرية والسياسية والإنسانية في دارفور كخطوة أولى لإحلال الأمم المتحدة مكانه, وتحمل هذه النتيجة مجموعة من المعاني أبرزها تغييب الأدوار الاقليمية التي تتولاها بعض المنظمات في الأزمات الساخنة واللجوء مباشرة إلى نظيرتها الدولية التي تتحكم في مفاتيح الحل والربط فيها بعض القوى الكبرى لذلك فالتدويل في حالة دارفور سوف يمهد الطريق لتكراره في أزمات أخرى تعج بها القارة السمراء, وأخفقت مؤسساتها الاقليمية في تحقيق نتائج إيجابية توفر درجة عالية من الأمن والاستقرار.
ويستند توقع اقتراب التدويل إلى محاولة الولايات المتحدة صياغة منظومة للتعاون الدولي في بعض الأزمات بعد الملابسات التي أحاطت بتجربتها في العراق وخلقت تداعيات مؤثرة على مكانتها كقوة دولية كبيرة, من هنا يمثل اختيار شكل جديد للتدخل في دارفور نقطة انطلاق لوضع مفاهيم يمكن أن تكون مرتكزاً لخطوات قادمة في المنطقة, وفي هذا السياق تبدو هناك علاقة ارتباطية بين مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحته الولايات المتحدة مؤخراً والمسألة السودانية من حيث احتياج الأول للهدوء حتى تتحقق مرتكزاته الأساسية, ولعل التسوية المتوقعة في السودان تمثل مؤشراً على هذا الهدف وتفتح المجال لتكرارها في مناطق أخرى ومن حصيلة التسويات المتفرقة يتم تهيئة الأجواء لتدشين الأهداف الكبيرة للمشروعات الاستراتيجية, لذلك فأي إخفاق أو تأخير في حلقة المشروع الأميركي سوف يؤدي إلى تداعيات على حلقاته الأخرى.
وعلى هذا الأساس تندرج فكرة التدويل لأزمة دارفور في بعض جوانبها الاستراتيجية ضمن أفكار أخرى لها علاقة بمشروعات ترتيب هياكل المنطقة على قواعد طائفية وعرقية, وتبدو هذه الساحة مناسبة من وجوه مختلفة ففي دارفور (موزاييك) عرقي يصلح القياس عليه في جولات تالية لتكرار التدخل الدولي, لكن لهذه الخيارات نتائج قاسية على السودان منها زيادة فرص التجزئة لوحدة أقاليمه وتعزيز فرص الانفصال وخاصة أن هذا الخيار سوف يكون مطروحاً على جنوب السودان بصورة قانونية بعد نحو خمس سنوات من الآن, ومن المرجح انسحابه على الغرب والشرق أيضاً ومهما كان التدرج في التدويل حذراً فإن فرص إشاعة الفوضى في السودان واردة بحكم الكثير من الاعتبارات السياسية والعسكرية والقبلية, وهو ما يقلق بعض الدول المجاورة ويجعلها تجتهد إما في دعم قوات الاتحاد الافريقي أو إفشال مهمات التدخل الدولي مهما كانت صيغته, وستظل علامات التدويل التي بزغت مكوناتها وتوسعت مؤشراتها محفوفة بسلسلة من المخاطر على مستوى السودان ومستقبله وعلى صعيد المجتمع الدولي ودرجة تماسكه.