كل الآثام والآلام إلى الداخل العربي, ولا يعترف الكثيرون بحالة الصراع القاسية لربما القاتلة القائمة ما بين مفاهيم التحرر والحراك وثوابت الجمود والاستنزاف المستمر, والأدهى من ذلك هو ظهور نزعات غرائبية في تزيين الواقع وفي التستر على عيوبه وفي التعاطي مع الحالات والأحوال المستبدة على أنها انتصارات دون أن يدري أحد وعلى أنها مقاصد هي النبوغ والإبداع بذاته.
ولا أرى ثمة جدوى في أن يدار الصراع أو يدور حول المظهر والموقع الذاتي وأن تتحكم عوامل الوجاهة والكبر المزيف في أنماط السلوك السياسي وبدرجة أشد وطأة في صياغة القرار السياسي عبر هذا المنعطف أو ذاك, إن الاعتقاد المجاني والمغامر بأن الواقع هو في أحسن حالاته والفاعلية في أكمل صورة ولم يتبق لنا سوى أن نستمتع بهذه الانجازات العربية المتدفقة وأن نعقد لها مجالس الطرب وحلقات الذكر الاجتماعي وأن نطلق على الميدان مجموعات المتنطعين وممتهني الكلمة المجانية شعراً كانت أم نثراً وما أسوأها من لحظة حينما تميس القدود في موكب الجنازات وتحتسى كؤوس الطلى في موعد الهزيمة والاستذلال, والتزييف سوف يبقى قائماً ومفتوحاً على الأسوأ ما دمنا لا ننطلق من منظومة الثوابت بكل ما تعنيه للعرب وعوامل التأسيس بكل ما تستدعيه من حقائق ووقائع ومناخات تفتح بكل ما تتطلبه من مراجعة ونقد وتقويم عبر الاندماج الكامل بالديمقراطية وموجبات الحرية على وجه العموم, لعله علينا هنا أن نستذكر جملة حيوية للرئىس الخالد حافظ الأسد يقول فيها :إن كشف الخطأ يشكل الخطوات الأولى لإصلاحه, والإشكالية الكبرى أن الخطأ ظرف وممارسة ومخطىء ولا يملك إرادة الالتزام بهذه المعادلة إلا نماذج قليلة متناثرة, نطلق الصرخة ثم يفترسها الجوع والمعاناة إلى أن تلوذ بمنطق ذاتي مخبوء لا يخرج إلى الشمس ولايقوى على أن يطرح قبساً من الحقيقة ولو لمجرد الطرح أو البوح. وعلى هذا النحو يصبح الإنسان الموظف والمستثمر المنفذ والمستبعد هو أداة العمل في تقويم الحياة ووسيلة المجتمع لتحذير الصفات والمواصفات القائمة ومنطق العامة في تقويم كل ما يوجد أو سوف يوجد على أنه كمال وجمال ونهايات وليس بدايات وأعمال خارقة وإضفاءات ساحقة لا مزيد فيها لمستزيد ولا مكان فيها لإضافة ولا وقت في ثناياها للتطلع نحو الآتي, نحو المستقبل, نحو ما يجب أن يكون باستثمار ما هو كائن على الأقل, ويبدو من خلال هذه النزعة المستبدة أن العرب اقتنعوا بما قسم لهم.
حينما يسحب مقوم الحرية من الإنسان يتعطل الإنسان ذاته بما هو خلق كريم ومؤتمن قويم, وبما هو طاقة ووعي عندها تنهض شرائح ونماذج من الذين بنوا خبرتهم في التزوير ورفعوا مداميك مجدهم عبر منطق تسويغ البؤس والسقوط وتسويق الانهيار والتبعية للأجنبي, إن الآلية التي ما زالت تستكمل شروط سطوتها على الواقع تؤكد أننا نختلف عن كل المجموعات البشرية حيث نبدد قيمة الإنسان وقدسيته ونحول شرط الحرية إلى قيود ومواكب ومهرجانات ومؤتمرات وصراخ يعلو وتصريحات تتناقلها وسائل الإعلام, وأخطر ما في ذلك أننا في مواجهة شرط وجودنا وقدسية ما استخلفنا الله فيه وإيمانية ما استودعته مراحل التاريخ وضرورات الواقع من بناء الذات وإطلاق شرارة العقل والانتماء لمعايير الحياة الكريمة كما يفعل كل أبناء هذه الدنيا المعاصرة.
ونتذكر بأن الإنسان الحر هو الإنسان القادر على العطاء وبأن الحرية هي التي يمارسها الإنسان وهي التي توفر له إمكانات العطاء المتبادل بينه وبين الحياة, وبمقدار ما يمارس الإنسان الحرية, تزداد وتنمو إمكانية هذا العطاء المتبادل, وتوفر شرط الحرية يغني الإنسان والحياة معاً, هي قبسات أخذتها بلا تردد من منطق متكامل للرئيس الراحل حافظ الأسد, ومع كل مرحلة تنهض هذه الأفكار لتنبيه الجميع إلى أن الحياة ليست فن التغني وليست منطق التبني لما هو دارج وإنما هي مقصد التبني وإطلاق الفعل والفاعلية في إيقاف زحف خطر داهم والدخول في تحدي الذات وتحدي منطق العصر والانتساب لعالم لا يعرف إلا القوة والتطور والتفجر والبحث الدؤوب عن الأفضل والأجمل والأكثر تأثيراً في دفع مسيرة الحياة نفسها, وعبر هذا المنهج فإن المسألة لا تتصل حصراً بالأداء المترهل الراهن في الداخل العربي بحيث يتم كشفه وتثبيت مخاطره والتدقيق فيما يحمله من أوزار وأوضاع أكثر سوءاً وأقسى تأثيراً, بل إن المنهج القائم على ثلاثية الإنسان والحرية والواقع هو الذي يعطينا المدى للفصل بين المؤقت الجارح والثابت الذي نرنو إليه ويعزل فينا بين لحظة القنوط واليأس عبر مشاهد التردي وبين مكامن الثبات والقدرة على النهوض وقياس الحياة على أنها خط المواجهة وليست حالة قبول ما هو ظاهر منها, إن سقوط فرع من هنا وفرع من هناك لا يغير في أصل الشجرة وأصالتها ولا يلغي جذرها و لاسيما عندما تكون جذور الشجرة ضاربة في باطن الأرض ومستقرة في وعي الإنسان ومجهوداته وهكذا فإن المسألة تتصل بإنجاز البعدين معاً, البعد القائم في بناء الحياة وأداء الدور وإطلاق إيقاع الحركة بحيث نتساوى كعرب مع كل المواقع الحية في العالم, والبعد الثاني المتمثل في لحظة النجاة من شرك الكبوة وتعميم حالة اليأس والتفاهم مع الحياة على أنها مجرد سلسلة من المآسي تنتقل من السيىء إلى الأسوأ ومن التجزئة إلى التفتت ومن المرض إلى العجز ومن السبات إلى الموت.
إن مجمل فقرات هذه المقدمة الطويلة تتلمس حضورها وتطبيقاتها في وضع محدد بذاته يتلخص في غياب الثوابت أو تغييبها وهنا تكمن المأساة الحقيقية لأننا حينما نقصي الثوابت ونشتغل بطريقة الانجذاب للمدرك الحسي المصنوع ثم ندخل في الزواريب نتوهم المجد في العتمة والقوة في الاغتيال والأمان في كتب الإرادة, والأمانة في توزيع مواد الحقد والكره للآخر عبر ادعاءات ذاتية فارغة توهم صاحبها أنه بطل الحكاية, ويوهم صاحبها الآخرين على أنه الميزة وبأنه من حفرته المحاصرة تبدأ الحكاية وتتحرك الأبعاد ولكي يحدث ذلك لابد من هذه الذاتية المفرقة المتعصبة عندها تضيع الثوابت وتتحول إلى مجرد خيارات معنوية تصلح للكلام وتدشن ألاعيب (عملية السلام) ويمكن استحضارها لخدمة مجد موهوم مترع بالصديد والتبجح والعطر الفاسد, ولا فرق في التعامل مع الثوابت القومية العربية بين منطق غياب وحالة تغييب إلا ما يخدم من ذلك قصة السيرة المنهجية, حيث نرى أن الإرادات السياسية العربية ومنتجاتها في التداول وإغراق السوق غير المحمية صارت تمارس مهمة التغييب بسادية مطلقة, تغييب الحقائق, تغييب المبادىء, تغييب الوقائع السياسية, تغييب شروط القوة ومناخات التفتح, تغييب ما يجري في العالم وتغييب انعكاسات هذا الذي يجري على صفحة وجودنا ذاته, لقد صارت حالة التغييب منهجاً متعمداً بذاته ولذاته واستمرأتها القوة الحاكمة في الوطن العربي وغفت بين ذراعيها الباردتين الأحزاب والمنظمات والقوى السياسية والاجتماعية وفهمتها النخب السياسية والثقافية على أنها مادة صالحة للادعاء وانجاز شرط التسلي والتسري بها, وبهذا المعنى فقد تمت حالة القطع تحت تأثير المخدر بين الثوابت بكل حقائقها وضروراتها وبدت لحظة الانطلاق هي ذاتها لحظة التسليم بالأمر الواقع,أطلق المعيار على هذا النحو فالسياسات والأنشطة التي تلغي أي اتصال مع الثوابت وتبدأ الحكاية من لحظة السقوط والهزيمة هي الحكيمة بذاتها وهي الواقعية التي تستحق أن نحيط بها مثلما أحاطت بنا, وكم هو التزوير مر ومؤلم هنا حيث تؤخذ النزعة الواقعية وهي منهج في البحث والتحليل ومعرفة الذات والتبصر بالآخر وإدراك مدى نسبة وتناسب القوى ويوضع ذلك كله بديلاً متعسفاً رخو الأبعاد مشبوه السمات من خلال الانضواء تحت عنوان الأمر الواقع.
إن الخيار هنا يتصل بإقصاء الثوابت لكي نفسح في المجال للأمر الواقع وكلما أنهكنا ثابتاً بالإقصاء والحصار أعطينا ثغرة واسعة للوافد من العناصر المكونة للأمر الواقع, نستبعد الوحدة وما في معناها لكي نفتح الطريق أمام التجزئة والتمزق وتبرير كل ما هو مؤذ ومناهض لطبيعة الحياة, نطارد الحق ونطرده لنوصل رسالة لمنتجات الأمر الواقع بأن تتقدم وهي الاستهلاك وتبديد الثروة وإبقاء الإنسان العربي في منطقة الجهل والتخلف والتبعية والمرض والأمية.
ندمر منهج ربط الثروة والطاقة في بناء الوطن وصياغة مستحقات الشعوب في قدرتها على بناء ذاتها ومواجهة التحدي القادم من وراء البحار ونقول لمنجزات الوهن والوهم إن الطريق سالكة شريطة أن نحتفظ بما يعطينا المتعة والسعادة وبما يضمن حصتنا من النهب الداخلي المنظم للثروة الكبرى التي أعطاها الله لهذه الأمة مادة وموقعاً, اقتصاداً ورسالة, دوراً وحضارة حتى لقد صح أن نقول الآن إن العرب أغنى موقع جغرافي وتاريخي على وجه الأرض وأفقر موقف سياسي واقتصادي على وجه الأرض لأن الفقير ليس الذي لا يملك, بل هو الذي يملك بل تفيض ملكيته ثم لا يعرف كيف يستثمر هذه الثروة أو كيف يوظفها في الحد الأدنى لدفع الموت على النفس وللحفاظ على الحق والثوابت كما هي في آلاف السنين, لقد درجت عملية تغييب متعمدة وبطريقة المتوالية العددية حتى تحول التغييب الإرادي لمنطقنا وقضايانا إلى حالة غياب, هذا هو الخطر الأعظم صار التغييب, غياباً كان استثناء فصار قاعدة, كان خياراً هجيناً يسمى خيانة, عمالة, استغلالاً, سقوطاً, الآن صار أمراً عادياً يتباهى به هذا الموقع أو ذاك, يتبجح به البعض ويحمل راياته السوداء المستغل والنصاب والمتاجر بآلام الشعب, والغياب هو مقياس الانحطاط والعنوان الأكثر انسجاماً مع موجبات الفناء بالتقسيط والتنازل المتدرج عن طبيعة الحياة وليس عن رسالتها فحسب والصراع قائم حتى نفيىء إلى المنطق ما بين التغييب والغياب من جهة والثوابت العربية التي هي أصل حياتنا وضمانة مصيرنا.