عبره بذور وثمرة اصرار البشر على المضي قدما بمشاعرهم رغم أن بعضها قد يكون من مبتكرات حواسنا والتي قلما نعترف بها أنها كذلك, لكن تعسفا حقيقا سيكون إذا ما قرر البشر عدم الاعتراف بنزعاتهم مهما كانت مدمرة ومهما كانت وحشية ولو بذريعة أنها بخدمة غريزة حب البقاء!!
لهذا باريكو يضعنا في عالم يسميه لنا (مابعد الحرب) دون أن يحدد لنا تلك الحرب أو حتى أرضها لكن هنالك أحقاد خارجة من حرب تتحول إلى حالات ثأرية من دون أدنى مواربة, ويتجاهل باريكو أين ومتى لكنه يتوقف عند (لماذا)
ودون أن يبرر الدوافع ويشرحها لنا عبر الفصل الأول الذي يبدو كمشهد سينمائي مفصل مثل بروح الأكشن!
حيث هنالك مزرعة منعزلة يعيش فيها الطبيب مانويل روكا مع طفليه (صبي وفتاة) وحين يلمح عن بعد مرسيدس بيضاء يترجل منها أربعة رجال يدرك أنهم قادمون للانتقام منه لا محالة فيسرع إلى ابنته تينا: (تعالي ياتينا, لا تخافي, تعالي إلى هنا, حرك مانويل روكا السلة الملأى بالفاكهة وانحنى ثم رفع غطاء سريا لأحد المخازن ونظر بالداخل كان مكانا أكبر بقليل من ثقب كبير محفور في الأرض وكأنه مخبأ حيوان: استمعي يا تينا الآن سيصل بعض الأشخاص ولا أريدهم أن يرونك, لا بد أن تختبئي هنا في الداخل, وأن تنتظري حتى يذهبوا بعيدا, هل فهمت ما أقوله.. يجب عليك فقط البقاء صامتة هنا.. أعطني قبلة..).
الطفلة الجميلة تينا تتكور حول نفسها وتحافظ على هدوئها وصمتها رغم صوت إطلاق الرصاص في الخارج ومقتل شقيقها ووالدها وحين يهم المنتقمون بالرحيل واضرام النار في المزرعة يأمر قائد المجموعة (ساليناس) الشاب ذا العشرين عاما (تيتو) بالبحث عن الطفلة لقتلها فالمطلوب قتل العائلة كلها وإبادتها.
يستدل تيتو على المخبأ ويحرك لوح الخشب ليجد الطفلة.
(كانت هناك طفلة في الداخل منكمشة على أحد جانبيها ويداها مختبئتان بين فخذيها وكان رأسها منحنيا قليلا إلى الأمام تجاه ركبتيها, كانت عيناها مفتوحتين سدد تيتو مسدسه إلى الطفلة.. استدارت الطفلة برأسها ونظرت إليه, كانت عيناها قاتمتين, شكلها غريب, نظرت إليه نظرة محايدة بلا تغيير, كانت شفتاها مطبقتين وتتنفس بهدوء, كانت حيوانا في كهفه.. كانت استدارة شفتيها رائعة, كانت ساقاها تظهران من خلف تنورة صغيرة حمراء, وكانت كأنها تصميم فني, كل شيء منظم, كل شيء فيها تام, ودقيق..)
نهض, وضع السلال كما كانت وشعر بقلبه يدق بقوة.
تينا الطفلة ستكون هي بطلة الفصل الثاني من الرواية التي تأتي على شكل حوارية بين تيتو وتينا بعد سنين طويلة جدا حيث يقدم باريكو البطلة الأنثى التي استثمرت مرات عديدة وخطيرة في حياتها تلك النظرة التي جعلت تيتو يتركها بمخبئها بسلام, حيث بعد بضعة سنوات ستفتن الكونت المكلف بالتخلص منها, فيعمد إلى إخفائها ثم الزواج منها حيث تنجب له ثلاثة أبناء وبعد عشر سنين يموت الكونت ويقوم أقاربه بزجها بمصح عقلي.. وتضطر مرة أخرى إلى تغيير اسمها وابتدأت مرحلة جديدة من حياتها هي الانتقام من قتلة أبيها وشقيقها واحدا تلو الآخر ومن دون دماء, حتى تصل تيتو القاتل والمنقذ بنفس الوقت (فالرجال الثلاثة الآخرون الذين شاركوا تيتو في قتل عائلتها اغتيلوا جميعا واحدا بعد الآخر في ظروف غامضة بطرق غير معهودة, دون أن تطلق على أي واحد منهم رصاصة, ثم الانتقام منهم بهدوء من دون سفك دماء, لكن بشكل قاطع..
باريكو يبدو وكأنه كتب كل روايته ليطلعنا على الطريقة الأنثوية الخالصة بالانتقام! أيضا الطريقة الخالصة بالحب! بحثت عن قتلة عائلتها وانتقمت لكن عند عيني تيتو حيث تبادلا تلك النظرة وهي في مخبئها إلى نظرة استقرت في ذاكرة كل منها, جاء لقائها به بعد تلك السنوات لقاء بوحي اعترافي بذكاء بالغ وبدراية عميقة يسرب إلينا باريكو حقيقة كيمياء النظرة بين رجل لا يفوته جمال الأنثى حتى لو كانت طفلة بحيث إنه يتعرف إلى عينيها إلى تلك النظرة بعد سنين طويلة رغم تلك اللحظة المحض انتقامية في المزرعة كان يحمل مسدسا لكنه أيضا كان يحمل قلبا..
باريكو على مدار الرواية يزجي إلى القارىء حكمته بعيدا عن الوعظ المباشر: (عندما يبدأ الناس في قتل أحدهم الآخر فإنهم لا يتراجعون أبدا إلى الوراء).
مقولة الرواية يمكن اختزالها بأن: (الانتقام هو العلاج الوحيد ضد الألم) مع ترك المسألة مفتوحة للتداول وهذا ما اتقن دسه بين السطشور.
والعالم لم يهيء قط لإحداث اللذة بمعزل عن الألم.