استطاعت لحظته في تأويل جديد لتجربته وعالمه وفطرية أدواته, التي تسعى للتكامل.
ولعل الدهشة الموازية للاكتشاف دلالياً وبلاغياً, ستسفر عن بعد معرفي جديد, وليس مصادفة ان يذكر المبدع الراحل جبرا ابراهيم قولاً لمن قضى عمره في ترجمة محاورات افلاطون: (ان الذي لم أقرأه حتى الآن لا يستحق القراءة). ذلك ان (محاورة) بارمنيدس لأفلاطون توضعت في متنها على حوار حول الماهية والحقيقة المطلقة, والمعرفة في ذاتها, والمعرفة كماهية, مايذهب بنا للقول بأن منهج الحوار هو بحث عن حقيقة مواربة من خلال بعث العالم الداخلي للمبدع وتعالقه موضوعياً مع العالم الخارجي ففي كتابه (الاكتشاف والدهشة) يضعنا الكاتب ماجد صالح السامرائي أمام الوجوه الاخرى المتعددة للشاعر والروائي والناقد والقاص والمترجم والرسام جبرا ابراهيم جبرا ترجماناً لسيرة مكتملة عن دوافع الابداع لديه, محاوراً ومستنطقاً لأسراره داخل وخارج العمل الادبي, حيث للحوار فضيلة اساسية, واعني بها قراءة الصمت الذي يستأنف بنحو ما, سيرة الكاتب الفكرية هي السيرة الاضافية بالمعنى الانطولوجي بامتياز.
وإذا كان الحوار هنا ليس متخيلاً, إلا انه يحيل على لا متخيل الكتابة والنص والعالم والتجربة والحياة, والقراءة كفعالية اولى للحوار, حتى ليصح القول بأنه حالة قبض على متخيل الكتابة ومرجعها وانفعالها, ولعل تلك الحوارات التي اجراها الكاتب السامرائي الممتدة منذ اواسط عام 1973 وحتى اواسط عام 1992 من شأنها ان تؤرخ لزمن ما تواتر فيه سؤال في ذهن المبدع وأفقه, سؤال كما الهاجس: الكتابة الوجود الانساني الحلم بالكتابة, ومن ثم الوقوف على أفق القراءة كدلالة مفتوحة, وبالتأكيد فإن المحاور السامرائي يستنطق بأدواته وثقافته ومفرداته النقدية (تاريخاً فكرياً) رأى فيه جبرا, أنه لا يقل شأنه في تناميه وتسلسله عن سيرته الذاتية الاخرى, ان تنامي الحياة الادبية والفكرية لدى جبرا يحيلنا لها منهج مضبوط ايضاً للكاتب, لاسيما في جملته النقدية المتساءلة عن وعي الكتابة لدى جبرا الوعي (غير الشقي) بانتباه معرفي مطمئن للخلاصة الفنية او الفكرية للمبدع, على الرغم من اننا نجد ان ثمة حوارات معضلتها الاساسية التشابه او التماثل دون مشقة البحث عما هو مختلف وليس سائداً فحسب.
في الاكتشاف والدهشة, يلخص السياق المحكم بالتبويب والعناوين الشارحة ذلك التنامي الخلاق للمبدع في سيرورته وتكامله, وجلاء صورته كفنان صاحب رؤيا, ترى الى الكتاب كمنقذ من كل قسوة ومن كل صعوبة... ربما آثر جبرا أن يبدأ من هنا, باتجاه المكتوب (يبدأ بما يقرأ ثم يتوجه نحو مايكتب, أو ماسيكتب) وربما أحالته تجربته المدينية (القدس) الى محاولة كتابة رواية, وبداية كتابة القصة, خصوصاً في الاماكن المفتوحة حول مدينة القدس يقول جبرا: (ومادامت هناك صخرة وشجرة زيتون, فإن عندي صلة قوية بشيء موجود في هذا الكتاب الذي أقرأ).
وكان لجبرا أن يجيب على سؤال أساسي هو انتقاله من فلسطين الى انكلترا, فأميركا فالعراق ومدى تأثير هذا الانتقال على كتابته, بالقول انه يستطيع ان يسمي (لباً جوهرياً) في طريقة كتابته, وفي طريقه تفكيره, هو (لب فلسطيني) ان اللب الفلسطيني كما يقول جبرا هو الباقي, وإن الاشياء الاخرى تبقى وسائل للتأكيد على (التقابل) على (التضاد) على رؤية الشيء نفسه بأبعاد جديدة, هل يجعلنا إذن تأكيد الوجود الى الهاجس الخفي وراء تجربته الادبية الواسعة?! يقول جبرا: (كانت الرواية هي الهاجس عندي) الهاجس الذي لازمه بعد البدء بحياته العملية, فقد كتب الرواية باللغة الانكليزية, لأنه لم يكن راض عما كان يقرأ من روايات باللغة العربية من حيث الشكل والتقنية والمحتوى, وقد كان يجد نماذجه في روايات الادب الانكليزي والفرنسي والروسي... فكانت آنذاك عام 1953 روايته الطويلة الأولى (بالانكليزية) صيادون في شارع ضيّق... لكنه لا ينكر الاثر الذي تركته الف ليلة وليلة في مسار الرواية العالمية, بل على روايتيه (السفينة والبحث عن وليد مسعود, ليقول: نحن عن طريق الرواية الغربية, ربما عدنا مرّة ثانية الى جذورنا في ألف ليلة وليلة).
فقد آثر جبرا الخروج عن إخبار القارئ, بل جعله يرى, فهو كمؤلف إذن يريد ان يستدرج القارئ ليكون عنصراً آخر في تجربته الروائية, وعناصر الرواية عنده هي: الكاتب والكلمة والقارئ, أقانيم ثلاثة شغلت ذلك المبدع الكبير في مساراته النقدية والابداعية الاخرى, ومع ذلك فهو يقول انه لم يكتب كل ماكان يحلم بكتابته... ربما يفسر لنا ذلك, القلق الذي كان يعتريه كمبدع, ويصفه ب (اللجاجة و الذهنية), القلق الذي وجد له مثيلاً في حياة الملك البابلي نبوخذ نصّر... وربما الحزن فقد كان يقول (بالحزن الكوني) الذي جاءه عن طريق رومانسيات (لامارتين) و(الام فيرتر) فضلاً عن وفاة أخته (سوسن) التي جاءت له بأحزان أخرى عميقة, ومن ثم أدبيات جبران خليل جبران وجون كيتس وشلي اللذان كانت حياة كل منهما فاجعة, ويكثف جبرا ذلك بالقول: (كنت ارى الجمال في المأساة, وأرى في الجمال المأساة والحزن... هذه بعض العوامل التي جعلتني اريد أن اكتب وكتبت).
في الاسئلة التي صيغت بلغة النقد حقاً, يأخذنا (السامرائي) الى ذلك الافق النفسي والفكري الصافي لعوالم جبرا, الخفية والمعلنة, بكل سجالاتها الادبية والنقدية, متصالحاً مع حياة ليست (مخترعة) وليست مسروقة , مقوماً وجوده باللغة , جبرا بطل رواياته الطليق بكل تأكيد صوب عوالم الدهشة البكر والاكتشاف المستمر كأننا به بروميثيوس آخر يقارع زيوس محتفيا بالنار والجوهر وبشرف الصراخ في ليل طويل.