تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الكلمة النَّصل

آراء
الاربعاء 27/12/2006
نهلة السوسو

مصادفةً, أسمعه يتحدث في إحدى الإذاعات, وألتقط في نبرته الخشنة, طفولة, لايمكن أن يغادرها في ذاكرتي,

فبعض الناس تتوقف ساعتهم بالنسبة لنا, لسبب أو لآخر, فكان يردّ على أسئلة المذيعة, ويوسع مدى الإجابات, متناولاً التاريخ, قارئاً شخوصه, محيياً, تلك الصراعات السلطوية, التي هي سمة, كل العصور لكأنه يتردد في ردهات قصور وأسواق وحواري, تلك الأزمنة, ثم ينتقل إلى فن الدراما, مستذكراً أساتذته, وفضل المكتبات التي ارتادها, والمراجع التي اطلع عليها, قبل أن ينال عمله التاريخي الجائزة الذهبية في مهرجان عربي! أندهش, وسمعي كله, مع محطة الإذاعة, من ذاك الطفل الذي جاءني يحمل قصةقصيرة, أملاها عليه, خيال سكنته الغابات التي نفتقر إليها, والسناجب التي لم يرها إلا في القصص المصورة, وهواجس أحلامه, بأن يوازي ( أندرسن) فأصحبه بنية طيبة, وتوقعات حسنة إلى إحدى الكاتبات المتخصصات في أدب الطفولة, علّها تأخذ بيده, وتضع له الشاخصة الأولى باتجاه البراري, التي يتوق إلى ارتيادها, وفي مكتبها, الكئيب المغلق النوافذ, المعزول عن النور وشجر الحديقة العتيق, أخذت القصة, وألقت عليها نظرة عابرة, وهي تشكو من أكذوبة الموهوبين الكبار , ثم رمتها جانباً متذمرة من الأذن البليد, الذي آن له أن يتقاعد ويريحها من وجهه, وباد الامتعاض على وجهها من سذاجة ما قرأت, واختلاط الخيال في التفاصيل المنفّرة! لم تكن القصة بالنسبة لها, أكثر من ورقة منزوعة من دفتر مدرسي, ولم يكن الكاتب الصغير مرئياً لعينيها, على الإطلاق , لأنها كانت توجه ملاحظاتها إلي كأنني مذنبة, وحين دخل الآذن بقهوته الرديئة, التي تتشابه في كل دوائرنا الرسمية, كنت أتوق لمغادرة المكتب , لأزيل الاضطراب الذي اعترى رفيقي, وأستدعي أفكاراً سريعة لمواساته, وأبحث عن كلمات مناسبة تؤثر فيه حقاً, وتزيل الإحباط الذي ضربه في الصميم! ما كان يهمني إن واصل السير باتجاه موهبته وأحلامه ما فقده في تلك اللحظة , بمسؤوليتي , أو بطيب نيتي, ليس الاتجاه ولا التشجيع , ولا الاعتراف به, بل الفرح! كيف أعيد إليه الفرح وهو قمة المرتجى من وجع الإبداع? أذكر خطاه البطيئة, ونحن نسير وسط زحام دمشق, أذكر دموعه التي انفرطت ونحن نعبر إحدى الساحات بحثاً عن سيارة, وأنا أداري ندمي على خطيئة اصطحابه إلى تلك الكاتبة الشهيرة, التي يفترض أنها تفهم شفافية الطفل وطراوة مشاعره, وجموح أحلامه, وخصوصية اتصاله بالعالم فكيف بمحاورته والحديث إليه بلغته?‏

لاأدري كيف واصل ذلك الطفل تسلُّق حبال الأشواك , ليصل إلى قصر الأحلام, حيث أميرة إبداعه النائمة! لا أدري إن كان ذلك المكتب الكئيب قد انمحى من ذاكرته, آخذاً جرحه ودموعه والضربة القاصمة لقلبه! وقد تتبعت حديثه الإذاعي الطويل, الذي لم يأت إلا على ذكر من أحب.. ومن تعلم منه.. أما تلك الكاتبة فقد ذكرني بغيابها واختفائها مع إبداعها! بل وجعلني أبحث بين أوراقي, عن رسالة كتبها الأديب الألماني الشهير (هيرمان هيسّه) إلى شاعر شاب, أطلعه عبر البريد, على قصيدة , وسأله إن موهوباً, وبوسعه أن يواصل طريقه الشعري.. كان رد (هيسّّه) إنجيلا, في مشروع الإبداع الإنساني, وإنارة كاملة, لذلك الدرب المعقد الذي تسلكه الموهبة الانسانية, وأهم ما في ذاك الرد, الاحترام العميق لرغبة الكائن في المعرفة..‏

صحيح أن المتطفلين على عالم الفن والإبداع , كثيرون, وصحيح أكثر, أن الراغبين في إضفاء البريق على حياتهم, ينبتون كل يوم, هنا, وهناك في عالم الشعر والقصة والرواية والسيناريو والإعلام.. لكن ازدراءهم, غير مقبول, وتلك الفوقية التي يتحدث بها (الكبار) ليست مبررة, وذلك التسلط بذريعة النقد غير مسوّغ.. وإنما كُرّمنا بلغة جميلة تطوّع أصعب المواقف وأعسرها, فكيف نستخدمها في النفاق والتملق, ولانستدعيها في النقد, أياً كان, بدل تحطيم المجاذيف, لراغب في ركوب الموج أول مرة?‏

الفضيلة الكبرى للموهبة أنها عابرة للأسوار والسدود, لكن الكثير من أصحابها , لايشفون من نصال بعض كلمات, رشقها متحجر, وهم يقفون بانتظار عربة تنقلهم إلى مكان آخر ولو على بعد خطوة واحدة..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية