يبدو أن داعش قد نهجت إلى تنفيذ لعبة استراتيجية: فهي تعلم بالانقسام التركي العميق، لذلك عندما أعلنت عدم مسؤوليتها عن التفجير، كانت تأمل بتعميق الهوة وإثارة الصراع بين الأطراف، وزيادة الانقسام الذي مضى عليه ما يناهز 13 عاما أي منذ تسلم حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أردوغان.
في شهر كانون أول عام 2013 واجه أردوغان تهما بالفساد، وبدأ أنصاره في حزب العدالة والتنمية بالخروج في مسيرات مرتدين الأكفان في إشارة منهم لاستعدادهم التضحية بأرواحهم فداء له ولكن إن كان أنصاره على استعداد للموت من أجله فثمة معارضة تكن له مشاعر العداء والكراهية الأمر الذي دعاه إلى اتباع استراتيجية انتخابية جعلته يفوز في الانتخابات الماضية. وفي سبيل الحفاظ على السلطة، عمد إلى استخدام كافة وسائل العنف ضد خصومه السياسيين: حيث سجن المعارضين والصحفيين وهدد الشركات غير الداعمة له بفرض ضرائب أخرى عليها وطلب من القوات الأمنية قمع مسيرات المعارضة السلمية.
وتقوم الاستراتيجية الانتخابية لأردوغان على فرضية واحدة: توجيه ضربة لأولئك الذين يعتبرهم حزب العدالة والتنمية معارضين له وذلك بهدف دعم القاعدة اليمينية للحزب. وهذا التكتيك يفسر لنا قراره في شهر تموز بمجابهة ومحاربة حزب العمال الكردستاني، بعد أن تبين له تخلي الأكراد عنه وعن حزبه بأعداد كبيرة في الانتخابات التي جرت شهر حزيران الفائت.
لقد كان لسياسة أردوغان حيال عين العرب الأثر البالغ في وحدة الأكراد وذلك عندما تعرضت لهجوم من داعش في أيلول من العام الماضي حيث كان رفضه التدخل في الصراع بحجة منع إراقة الدماء الأثر الكبير في إثارة غضب قاعدته الكردية المحافظة الأمر الذي دفع بها للخروج من حزب العدالة والتنمية. وبعد أن تخلى الأكراد عن أردوغان أصبحوا مستهدفين منه ويُنظر إليهم كسائر المجموعات المعارضة.
وفي مختلف الأحوال، يعتبر قمع أردوغان للأكراد أمرا في غاية الخطورة: إذ أنهم خلافا للمجموعات المعارضة فإن حزب العمال الكردستاني يحمل السلاح. في الحين الذي كان به معظم الأكراد يؤيدون حزب العدالة والتنمية، كان على أنقرة استقطابهم للوقوف في وجه حزب العمال الكردستاني والفوز بالمعركة الشعبية.
لكنه لن يتسنى له ذلك في الوقت الراهن لا سيما وأن قوة الأكراد، المعارضين لأردوغان، على ذات الدرجة من قوة المؤيدين له.
وفي مختلف الأحوال قد عطلت نتيجة الانتخابات خطط أردوغان في تغيير الديمقراطية البرلمانية إلى ديمقراطية رئاسية وتنصيب نفسه رئيسا للبلاد.
تنحى أردوغان كرئيس للوزراء التركي في شهر آب عام 2014 عملا بالنظام الداخلي لحزب العدالة والتنمية الذي يمنع أعضاءه من تبؤ هذا المنصب أكثر من ثلاث ولايات متتالية وتسلم لاحقا منصب الرئاسة. وعلى الرغم من الدستور التركي الذي ينص على أن رئيس الوزراء هو رئيس الحكومة ، وإن رئيس الجمهورية، شخصية غير حزبية ترأس الدولة، نجد أردوغان يدير الحكومة وحزب العدالة والتنمية من وراء الكواليس. وفي شهر تموز، تدخل في المحادثات لتشكيل الائتلاف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري المعارض مما أدى إلى انهيارها. وكان له القول الفصل في تحديد قيادة الحزب في مؤتمر حزب العدالة والتنمية الشهر الماضي. وتشير استطلاعات الرأي بأن الانتخابات المبكرة لن تغير الكثير في البرلمان أو بالنسبة لأردوغان. وإن الانقسام السياسي يثير كل المخاوف الأخرى وثمة عدد كبير من المؤيدين والمعارضين الذين يحتمل تغيير أفكارهم. وهذا سيجعل تركيا تحكم من قبل حكومة غير فاعلة، يكتنفها صراع سياسي عنيف يضاف إلى ذلك ما يجري في سورية من أحداث والخطر المتمثل بداعش.
يمكن لتركيا أن تتجنب المستقبل المظلم بإتباع السبيل الوحيد للخروج من عنق الزجاجة ألا وهو الالتزام بما منحه الدستور للرئيس من سلطات: بحيث يتسلم رئيس غير حزبي. لكن ليس ثمة دليل بأن يقبل أردوغان بهذا الحل أو أن يسعى لمعالجة الأضرار التي اقترفها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بسورية.
ستبقى تركيا عرضة لحرب أهلية، وإن التواجد الروسي في سورية سيزيد من تعقيد موقفها. إذ أن ثلاثاً من أصل أربع هجمات إرهابية حصلت في السنتين الماضيتين قد أسفرت عن مصرع 185 من مواطنيها والثلاثة كانت نتيجة تداعيات الأحداث في سورية.
في هذا الخصوص، يشعر الجميع بالقلق إزاء تهديد داعش، لاسيما عندما انضمت تركيا إلى تحالف الولايات المتحدة في شهر اب، ولم يعد السؤال إن كانت داعش ستنفذ هجمات ضد تركيا بل متى ستنفذها.
ما يعقد المشكلة هو أن تركيا تواجه مشكلة داعش من الداخل. إذ إن تفجيرات أنقرة نفذت من قبل مواطنين أتراك ذهبوا للقتال في سورية لصالح داعش وأصبحوا راديكاليين، ولم يعودوا إلى تركيا إلا للمشاركة في التفجيرات الانتحارية ضد المواطنين.
في أنقرة، استهدفت داعش على وجه الخصوص مسيرات سلمية مناهضة للحكومة نظمتها مختلف الجماعات اليسارية، على غرار الهجوم الذي حصل شهر تموز في سروج وهي بلدة تركية على الحدود مع سورية، ما أسفر عن مقتل 33 شخصا. وبعد تفجيرات سروج وجه حزب العمال الكردستاني أصابع الاتهام للحكومة التركية بشأن الهجوم واعتقل ضباط في الشرطة الأمر الذي أدى إنهاء اتفاق وقف إطلاق النار مع أنقرة. وإزاء ذلك تمكنت داعش من انهاء محادثات السلام بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني فضلا عن البدء بحرب كردية-تركية.
يستهدف داعش بشكل متعمد تجمعات المعارضة في تركيا لإعطاء الانطباع بأن الحكومة لن تحمي الأتراك المعارضين لأردوغان، مما يفضي إلى زعزعة استقرار البلاد. ومع تفجير أنقرة، فإن داعش عازمة على إحداث صراع بين المؤيدين والمعارضين لأردوغان بغية فقدان الثقة ببعضهما البعض.
في حال بدء هذا الصراع، فإن تركيا ستنقسم إلى شطرين وسيخسر كافة المواطنين ومنهم الأكراد والليبراليون واليساريون والمحافظون واردوغان نفسه. في الوقت الذي كان يتعين به عليهم جميعا الاتحاد والتعاون لمجابهة داعش.