وعلينا جميعاً أن نتغير لنكون في مستوى هذه التحديات، ومعظم الوقت كان رد فعلهم الصمت المهذب الارتيابي، وخلال المؤتمرات التي كنت أدعو إليها في الولايات المتحدة كنت أؤكد للمستمعين إلى حاجة الولايات المتحدة للتغيير، إلى بيروسترويكا على غرار البيروستيرويكا في روسيا، وكانت ردة فعلهم متباينة،
ولكنها كانت تلقى تشجيعاً في صالات تتسع لآلاف الأشخاص، وعلى مر الأيام أثارت ملاحظتي جملة تعليقات البعض استوعبها والبعض الآخر عارضها، بشكل تهكمي، معلقين أنني أرغب أن تعبر الولايات المتحدة منعطفاً، كما الاتحاد السوفييتي الأسبق، وفي بلادي كانت ردود الفعل اللاذعة أكثر تأتي من جهة أعداء البيروسترويكا، أناس ذاكرتهم ضعيفة وليسوا ملمين بالمشكلة، ورغم أنني كنت واضحاً في عدم تشبيهي الولايات المتحدة بالاتحاد السوفييتي الأسبق، وسوف أوضح موقفي.
نبهت البيروسترويكا في بلادنا إلى ضرورة التغييرات في الاتحاد السوفييتي، ولم يكن مطروحاً الاستسلام أمام النموذج الأميركي، ولكن أصبحت ضرورة البيروسترويكا أوسع، وأكثر وضوحاً من السابق، وتشمل العالم برمته.
ومن نافلة القول إن التغيير في الاتحاد السوفييتي الأسبق خلال منتصف أعوام الثمانينات كان ضرورياً للغاية، فالبلاد كانت مخنوقة بسبب كبت الحريات، والشعب ولاسيما الطبقة المثقفة فيه كان ينشد التخلص من قبضة نظام بني منذ عهد ستالين، وملايين الأشخاص هتفوا (لانستطيع أن نعيش بهذا الشكل).
نقطة انطلاقنا كانت المصارحة، أي إعطاء الفرصة للشعب ليعبر عن اهتماماته وقلقه دون خوف، لم أكن متفقاً مع مواطني الكسندر سولجينتسين، حينما أعلن أن مصارحة غورباتشيف دمرت كل شيء، ولكن دون هذه المصارحة لم يكن ليحدث أي تغيير، وقد أنهى سولجينتسين حياته في ولاية فيرمونت، وليس في روسيا في البداية أرتأينا متوهمين أن إعادة صياغة النظام القائم، أي إجراء تغييرات داخل (النموذج السياسي) كافية، ولكن مقاومة الحزب الشيوعي والبيروقراطية الحكومية كانت شرسة جداً، وفي نهاية عام 1986 أصبح واضحاً بالنسبة لي ولأنصاري أنه لابد من استبدال أسس النظام، واعتماد الانتخابات الحرة، والتعددية السياسية وحرية الأديان واقتصاد مفتوح على المنافسة والملكية الخاصة.
وبحثنا في الحصول على هذه التغييرات من خلال مسار متدرج ودون إراقة دماء، إلا أننا ارتكبنا أخطاء، وقرارات مهمة تأخرنا في اتخاذها ولم نكن في وضع مهيأ لإكمال البيروسترويكا.
وثمة مؤامرتان أعاقتا التغيير، الأولى هي محاولة الانقلاب التي جرت في آب 1991، والتي قام بها الخط المتشدد والمعادي لإصلاحاتنا، وانتهى إلى إضعاف موقفي كرئيس والثانية الاتفاق بين زعماء روسيا واوكرانيا وبيلاروسيا لحل الاتحاد، ورفض زعماء روسيا فيما بعد طريق الاصلاح هذا، تاركين البلاد نهباً للفوضى، والآن حينما يسألني أحد ليعرف إن كانت البيروسترويكا نجحت أم فشلت، أجيب إن البيروسترويكا كسبت لأنها قادت البلاد إلى نقطة لايمكن من خلالها العودة إلى الوراء.
وغمرت نشوة النصر على الاتحاد السوفييتي الزعماء الغربيون، مقتنعين أنهم على رأس نظام حسن مزود بنموذج اقتصادي متين، إلا أن أزمة اقتصاد عام 2008 كشفت القناع عن هذا النموذج الغربي الهش الوهمي، وتشير الأزمة العالمية الحالية أن زعماء القوى العظمى، ولاسيما الولايات المتحدة، تجاهلوا الاشارات التي دعتهم إلى اتباع البيروسترويكا، و هذا مانتجت عنه أزمة هي ليست اقتصادية ومالية فحسب، بل أيضاً سياسية، والنموذج الذي برز خلال القرن المنصرم كان يرتكز على أسس لاتحتمل مثل البحث عن الأرباح الهائلة والاستهلاك المفرط لفئة، وعلى الاستثمار الجامح للمصادر الطبيعية.
وهذا النموذج ليس بحاجة للتعديل بل للتبديل.
وأنا على قناعة أن نموذجاً جديداً سوف يرى النور يوماً، يكون أكثر عدلاً وتوازناً، وتلك العناصر الخاصة بهكذا نظام موجودة في بعض البلدان مثل ماليزيا والبرازيل، اللتان رفضتا دروس صندوق النقد الدولي.
وقد حققتا نسبة نمو اقتصادية مذهلة، كما قضت كل من الصين والهند على فقر الملايين من الأشخاص فيها ومن خلال حشد مصادر الدولة، وانشأت فرنسا نظاماً للسكك الحديدية بسرعة قصوى، بينما قدمت كندا خدمات صحية مجانية ومن بين الديمقراطيات الحديثة، هناك سلوفينيا وسلوفاكيا، تتمتعان بقدرة على تخفيف حدة النتائج الاجتماعية لإصلاحات السوق.
لقد آن الآوان لإجراء (بناء خلاق) يوفر التوازن العادل بين الحكومات والسوق، ويدمج العوامل الاجتماعية والبيئية، والتخلي عن عسكرة الاقتصاد، وستلعب واشنطن دوراً مهماً في هذه البيروسترويكا الجديدة، ليست فقط لأنها تتمتع بسلطة اقتصادية وسياسية وعسكرية في العالم، بل لأنها هي المهندس الأساسي لهذا كله، والنخبة الأميركية هي المستفيدة الرئيسية من النموذج الاقتصادي الحالي، هذا النموذج الآيل للانهيار الآن، وينبغي عاجلاً أم آجلاً استبداله، وتلك ستكون عملية معقدة ومؤلمة للجميع وحتى الولايات المتحدة، وأياً كانت التباينات في المشكلات التي واجهها الاتحاد السوفييتي خلال عملية البيروسترويكا والتحديات التي تواجهها أميركا اليوم.
فالضرورة تقضي باعتماد نهج فكري جديد يماثل العصرين معاً، إذ خلال عصر البيروسترويكا التي أسست لها كانت تقع علينا مهمة تتمثل في وضع حد لانقسام العالم، وتخفيض السباق نحو التسلح النووي، ونزع فتيل النزاعات، سوف نتمكن من تجاوز التحديات العالمية الجديدة، في حالة واحدة فقط، أي إدراك كل واحد بضرورة إجراء تغيير أساسي، أي بيروسترويكا.