واطلقوا في رئتيها سحب الدخان العابق بروائح البارود، وخلت الكاظـمية والاعظمية من العربات المصفحة الامريكية ومرتزقة بلاك ووتر المستعجلين لاصطياد فرائسهم ككلاب الصيد المسعورة، واستأذنت بغداد هذا العالم الصاخب، كي تغفو ساعات او اياما بعد ان اذبل اجفانها السهر، وانهكها الارق منذ التاسع من نيسان عام 2003.
مَن مِن العواصم تقوى على السهر مثلما سهرت بغداد، ومَن منها يقوى على معاندة الارق كما عاندته بغداد، ومَنْ مِن العرب سوف يدير ظهره، ويقفل سمعه بعد الآن عندما تبدأ بغداد بسرد قصتها، فتفصح عن اوجاعها وتروي فصول احزانها ، وترتدي ثوبها الاسود، ثم تمشي في كل الاتجاهات لتنبش قبور ابنائها القتلى، وتعيد قراءة اسمائهم على مسامعنا، وترتب وجوههم من جديد على قياس الاحلام التي راودتهم قبل ان يصرعهم الرصاص الطائش، والمتفجرات المتعمدة!
ترك العرب بغداد كل هذه السنوات الدامية، تفكك بمفردها ألغاز الموت الدائر في شوارعها وساحاتها ، دون ان تعرف من اين يأتي كل هذا الموت، ومن اين تهب رياحه، وتستصرخ بنيها المقاومين كي يكشفوا عن وجهها جمر هذه الكوابيس التي تطاردها في الليل والنهار بأسلحة قتل لم تشهدها البلدان من قبل، فالمحتل يوغل في القتل، والعصابات توغل في القتل، والخوف يقتل قبل ان يحين موعد القتل، وبغداد تنطوي على احزانها، وتسأل دون جواب: من اين يأتي كل هذا القتل؟؟
اكثر من ستة اعوام والجريمة تكبر وتفرش ريشها في سماء بغداد، وشهود الجريمة يلوذون بالصمت ، ويربطون ألسنتهم بقيود احكام دولية قاطعة، روجت لشريعة الغاب، وذبحت القانون من عنقه ،وطوبت العراق حقل تدريب للسلاح الاعمى ، فاختبرت فيه موت الضمير في مواسم الصدمة والرعب، التي يطلق البنتاغون الامريكي رياحها كلما شعر بالضجر، واشتاقت نيرانه لاشعال الحروب.
باسم حقوق الانسان، لاقى الانسان العراقي كل هذه المأساة المشبعة بالدم، فخسر أمنه واحلامه وحاضره، حرروه من الديكتاتورية بعقاقير قاتلة، فمتى كانت الحرية تعني القتل، ولقنوه درساً «ديمقراطياً» بمدافع الدبابات وقذائف الطائرات والعربات المفخخة ، ثم نصبوا في طريقة فخ الاقتتال العبثي دون هدف، لتختلط كل الاوراق، وتضيع صورة القاتل في وجوه القتلى، فيصبح المقاوم قاتلاً، والمحتل شهيد الحرية، حين تشتبه الصور.
ذاكرة بغداد اليوم مليئة بالصور، والشريط لم ينس مشهداً إلا وسجل تفاصيله، وهي تعرف قاتلها ولن تنساه، وتعرف شهداءها ولن تنساهم، وتعرف تاريخها ولن تخرج منه، تعرف حضارتها القديمة وستستردها، وتعرف عروبتها رغم الجراح وستضبط نبضها على ايقاعها، تعرف شعراءها وفلاسفتها وعلماءها وفنانيها من زمن الحدائق المعلقة الى زمن حدائق الدم المقاوم الذي سال في ساحاتها، تعرف نبوخذ نصر وتعرف الجواهري وتعرف ذلك الجندي المجهول- المعلوم الذي ملأ ليلها ونهارها كل هذه السنوات المرة بأزيز الرصاص الذي روع المحتل وفرض عليه اليوم ان يخلي بغداد من سلاح الغزو وجنود الغزو.
بغداد ذاهبة الآن الى النوم، فلقد اضناها السهر طوال اكثر من ستة اعوام وهي تعاند الارق، وحين تفيق فسنفتح اسماعنا على صوتها الشجي وهي تفرغ شريط ذاكرتها، وتروي لنا قصتها مع الغزو والاحتلال، ثم تمسكنا بأيدينا وتجر اقدامها برفقتنا على شواطئ دجلة لنغني معها موالها الحزين الذي افتقده العرب اكثر من ستة اعوام .