وعندما هممت بمغادرة الحقل حاول الشبان الصغار دفعي إلى بيوتهم للقاء أمهاتهم، وأعطيت رقم هاتفي الجوال لبعض الأصدقاء الجدد، لم يكن بيننا لغة مشتركة ولكنهم لايزالون يرسلون إشارات رقمية خارجاً نحو الفضاء لكي ترتد ثانية عبر تلك الحدود ومنها لهاتفي، لقد بددوا مبالغ قيمة على هواتفهم النقالة فقط لكي تسمع أصواتهم، ليشعروا بالتواصل مع أحد ما يعرف العالم الكامن وراء الأسلاك الشائكة والسفن والشاحنات والرصاص والقنابل.
أخبرني صديق بأن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش قال مرة: إنه كل ليلة قبل الاستسلام للنوم يمشي في خياله عبر شوارع مدينته المسروقة «البروه»، كل ليلة كان يتذكر أبواب كل المنازل، كل اللافتات، كل التفاصيل في حيه المفقود، وأكثر من غزاوي أخبرني بأنهم يعيشون روتيناً ليلياً مشابهاً باستثناء أنهم عندما يغلقون أعينهم يطيرون من أسرّتهم عبر النوافذ إلى ماوراء أضواء السفن الاسرائيلية والشاحنات المدرعة، عالياً نحو سماء الليل أحراراً يجوبون العالم.
يغلق شعب غزة أعينه ليزور مدننا الكبيرة ودائماً يحلم الغزاويون بالطيران.
بعد أن غادرت الحدود مشيت على طول الشاطىء قريباً من المنزل الذي كنت أقطن فيه، لقد انتهت الامتحانات اليوم وازدحم الشاطىء بالعائلات وفوقها نقطت السماء بطائرات ورقية محلية، إذ يصنع الفتية الفلسطينيون طائراتهم من الأكياس البلاستيكية المهملة ويخيطون قصاصات من صفحات الدفاتر المستخدمة لصنع الذيل الطويل ويربطون الأكياس ضمن إطار صُنع من العصي، وتحمل تلك الطائرات تفاصيل خاصة وجميلة، فترى الأسطر المكتوبة من الواجبات المدرسية تتراقص مع الذيل وعلى الأكياس تلصق صورة شيخ أو قائد سياسي محبوب أو نجم مشهور بحيث تطل تلك الوجوه عالياً من السماء على البحر والشاطىء.
وفي كل مكان تذهب إليه ترى هذه الطائرات الورقية، في كوبا معظم الرسومات تظهر قوارب رمزاً لنجاة أهل تلك الجزيرة من الحصار القاسي من قبل أميركا وشركائها، ولكن هنا الماء هو رمز النجاة وعندما يذهب الغزاويون إلى البحر للنجاة ينظرون عالياً نحو السماء إلى مافوق السفن الإسرائيلية الحاضرة دائماً.
في الأمس عبرنا مبنى الخطوط الجوية الفلسطينية المقفل منذ قصف الإسرائيليين لمطار غزة خلال الانتفاضة الثانية عام 2001 ورغم كونه غير ذي أهمية بالنسبة لشعب غزة منذ نحو العقد فإن لافتته الفخمة لاتزال باقية.
كل الذين قابلتهم ممن فوق الثامنة عشرة يدرسون في الجامعة ولكن مع وصول نسبة البطالة بسبب الحصار إلى 80٪ فإن الأمل معدوم بالحصول على عمل هن،ا لذا يجلس الناس عند الشاطىء ينظرون إلى السماء فوق البحر وينتظرون أجنحتهم.
مستعدة أنا لدفع أي شيء مقابل الحصول على المزيد من الوقت هنا ولكني لا أعرف إحباط السفر إلى رفح والعودة أدراج الريح، إذ إنني بجواز سفري الأميركي أستطيع العبور حتى ولو احتاج الأمر إلى بضعة أيام.
ومع صوت آذان الصباح عند تسللي إلى سريري محاطة بجيران يحلمون بالطيران كانت أحلامي ولأول مرة تطير أيضاً، حلمت بشرف أن أثبت بطائرة ورقية وأرمى في الهواء لأطوف فوق البحر الأبيض المتوسط تقودني أيد غزاوية صغيرة تمسك بنهاية خيط طويل جداً.
كاتبة المقال هي إيميلي راتنير إعلامية تعيش في نيو اورليانز الأميركية وحديثاً سافرت إلى غزة مع وفد يضم صحفيين ونقابيين وناشطين في مجال حقوق الإنسان.